تتأرجح مصر بين كلمات يحيى حقي بسرعة الضوء أو اشد قليلا، فهو بجملة يلفظها بعيدا كبحر يلفظ جيفته بلا هوادة، ومن ثم يغلق عليها ذراعيه بشوق محب أضناه غياب الحبيب.... يشتم أهلها تارة قائلا " هؤلاء المصريون: جنس سمج ثرثار أقرع أمرد، عار حاف، بوله دم، وبرازه ديدان. يتلقى الصفعة على قفاه الطويل بابتسامه ذليلة تطفح على وجهه". ويعلل هذا في موضع أخر قائلا "هم ضحية الجهل والفقر والمرض والظلم الطويل المزمن".
مصر التي عز عليه فراقها وكان ذلك عليه فرضا حين قرر والده الشيخ رجب إرساله لدراسة الطب في أوروبا بعد أن أخفق في نيل المجموع الذي يؤهله لدراسة الطب في المحروسة. لقد كان بعده عنها قرارا صعبا ودخوله لحياة أوروبا بكل تفاصيلها البعيدة عنه حينها كل البعد مغامرة فيها من ضروب الفكاهة والتناقض ما يدمي القلب تارة ويرده إلى حالة من الضحك الهستيري تارة أخرى.
لكن إسماعيل الذي "اقسم انه كان يحمل في أمتعته قبقابا، فقد سمع الشيخ رجب أن الوضوء في أوروبا متعذر لاعتياد الناس لبس الأحذية في البيوت" كان وصوله إلى أوروبا فيه كثير من "الوحشة" إلى أن تلقفته ماري التي وقع في حبها. تلك الفتاة الأوروبية قلبت له مفاهيم الطفولة والشباب، ووضعته على بداية سكة التوهان إن صح التعبير. فبعلاقته بها تجاوز كل ما كبر على كونه خط احمر وحرام وفاحشة، وذاق بحياته معها نهجا مختلفا في النظر إلى الدنيا ومتاعها. كانت علاقته بماري بداية دخوله دوامة التساؤلات اللامنتهية في الدين والدنيا. لم ترحمه الغربة و أطبقت عليه بأنيابها ودخل في حالة من الاكتئاب ساعدته ماري على الخروج منها سليم الجسد عليل الروح. فقيمه ودينه التي تربى عليها لم يجد لها مكانا هناك، فماري أقنعته إن طيبته ومسعاه لعمل الخير هي ضرب من الغباء، فأنت "لست المسيح بن مريم، ومن طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم". وهنا تاه في دوامة من الأسئلة يتيه بحثا عن إجاباتشافية لها دون جدوى، فنبش في إرثه الديني وتربيته التي شب عليها على عتبات السيدة زينب وفي هالة كل تلك الروحانيات لم يجد أي إجابات لحيرته التي ولدت وترعرعت في أحضان الغربة. عجزت "بركات" السيدة إن تثبته على ما شاء والده الشيخ رجب أن يرى وليده يكبر عليه من قيم وتعاليم دينية.
ومرت سبع سنين غربته عجاف من روحانيات شب عليها في حي السيدة زينب، وعاد من أوروبا محملا بالعلم طارحا الدين جانبا.
كان في عودته شوق لم يخفيه حين لاح شط الإسكندرية في الأفق فيقول في خاطره " هذا هو الفنار المتمنطق وهذا هو الشاطئ الأصفر يطارد يكون في مستوى الماء. أنت يا مصر راحة ممدودة إلى البحر لا تفخر إلا بانبساطها. ليس أمامك حواجز من شعاب خائنة، ولا على شاطئك جبال تصد. أنت دار كل ما فيها يوحي بالأمان." ولم تدم هذه الحالة من انبهار العودة وشوق لقاء الأهلوالوطن طويلا، فما أن وصل القاهرة من الإسكندرية مفاجئا أهله بعودته ظافرا بشهادة دكتور في طب العيون. أصبح طبيب عيون وفقد القدرة على البصر تماما كما فقد بصيرته.
ويمقت "خزعبلاتهم" ومن ثم يكبر فيهم الطيبة ونخوة أهل البلد... يقف على مسافة متساوية مابين حبه لمصر وبغضه لها... لكن دوامته تلك لم تقف إلى أناستطاع أن يروض نفسه على أن "لا يقيس ولا يقارن" مؤكدا بأن "إذا دخلت المقارنة من الباب، ولى الحب من النافذة".
في الختام، قنديل أم هاشم قراءة سلسة لواقع قديم حديث، جديرة بالقراءة وإعادة القراءة فكل منا قد يراها من زاوية مختلفة ويقدر بها جزئية مخفية في سطر هنا أو جملة هناك.


