خبر : إنعكاس الحقيقة ..نادين فراس ياغي

الثلاثاء 06 سبتمبر 2016 10:15 ص / بتوقيت القدس +2GMT



تجلّت أمام ناظريّ فراشاتٌ تحمل على أجنحتها ألونا من الحروف المبعثرة، تتراقص حول جسدي المضنك وتلحّفه بمشاعرَ رقيقة لعلّ دفء وعودها يُذيب الجليد الذي يأكل من عظامي ويكسرها الى أجزاءٍ بلا رحمة..ركضتُ وراءها مفتونةً بجمالها الأخّاذ ووهبت آمالي قربانا لهيكلها لعلّها تباركني ببراءتها وتبجّل إيماني الخالص لها..وقعتُ في حبّها فأغدقتها بالثّروات التي جمعتها في حجرات قلبي على مرّ السنين..منحتها طاعتي المطلقة وسرت خلفها كما تسير الفصول في موكب الطقس دون أدنى شكّ أو ممناعة..

إلّا أنّي وجدت نفسي فريسةً أحصحص في الدّوامة التي ارتسمت حولي بزخرفة تلك الأجنحة وما يسكن على ظهرها من احتمالاتٍ لكلماتٍ وجمل ، كنت قد تغافلت عن التمعّن عمّا في فحواها من آلام وقسوة..انتفضت روحي صارخةً من فظاعة المعاني التي توقد في الدّوّامة نيرانا متعطّشة..ولوهلةٍ شعرت بها تغرز بظوافرها التي جعلها الخوف حادّةً في جسدي، وكأنها تمزّق أحشائي إرباً إرباً وتقطّع شراييني واحدا تلو الآخر باحثةً عن مخرج..

كيف استطاع مخلوقٌ صغيرٌ يتغنّى الشعراء ببراءته وشفافيّة جماله أن يخلق في مخيّلتي صورا وحشيّة تترقّب انفجار بركانا من الدماء من قلبي..أيعقل أن الفراشة متمرّسة بأقنعة الخداع حتى استطاعت أن تزفّ بشريّة بأكملها في عرسٍ عقدت فيه المنيّة قرانها مع الجمال وجعلته أسيرا في مملكة قبورها؟.. ها أنا أغرق في دوّامةٍ من الأجنحة المتطايرة..ترفرف هواءً سامّا يجرح رئتاي كلّما استنجدت ُبتوأم الشهيق والزّفير الذي انجبته الرياح عندما ضاجعت أوراق الشجر شغفا يوم ما انتحرت النجوم في الفضاء، وتساقط سحرها بقعةً من الحياة على كوكب الارض..ها انا جثّةٌ تداس تحت حوافر أفكاري التي هاجت مع حنق الفراشات المصابة بنوبةٌ من الحقيقة المجرّدة..

وكأني نيزكا أجهضته السماء لتُرجع القدسيّة الى وحمها وتتناسى زلّة مشاعرها مع القمر..كالمخطوطة التي توارثتها الحضارات اعتزازا وفخرا بمجدها في الماضي الى أن قرّر الزمان خيانتها، فدفنها تحت رمال السلوان وسرق منها قيمتها.. تحوم حولي أسئلةٌ كثيرةٌ تموت قبل ان تولد وتنضج الى عمر الاجوبة، وتضيقّ الدّوّامة على نحري كحبل المشنقة، وأنا أنازع حتى لا أفقد توازني على خشبة الامل الضعيفة التي تسند وزني..أحاول أن ألتقط حرفا عن إحدى الأجنحة لعلّي أغريه بالانضمام الى صفوف سطوري، لعلّي أقنعه بأن يثور على كلماتي الخائفة إلّا أنّ الحروف تختفي كلما اقتربت منها..أحاول أن أغمض عيناي راجيةً الرجوع الى سذاجتي السابقة لعلّي أرى الفراشات لحنا من إبداع الطبيعة مرّة أخرى، ولكنّ عيناي قد أضاعت الستارة التي كانت تحميها من رؤية هذا الواقع المشوّه..

تتبسّم الفراشاتُ ساخرةً فلمحت في انعكاس أنيابها الحادة كم أنا متعبة، ضربت التجاعيد جذورها في وجهي وأنبتت عليه أشواكا تساقطت حولها ثمار البهجة من البشاشة التي كانت يوما بطلةً على مسرح حكاياتي، هنالك ليلٌ قابعٌ في جاثوم النوم تحت مقلتاي، وسكوتٌ يضجّ بالصراعات قد اصطاد لساني في شكبته.. أجلس القرفصاء مستسلمة، إذ بالفراشات تجلس أمامي متّخذة طفولتي هيئةً لها.. أنظر الى خيال نفسي السابقة واللوم يحفر في عمق مشاعري ولكنّ نبعا من الشوق يتفجّر من باطنه فلا أقدر على الاستمرار فيه.. كم هي ذكيّة هذه المخلوقات الصغيرة! تعرف أن النفس البشرية ضعيفة امام الطفولة..كم هي قويّة أمامي وهي متسلّحة بالبراءة! استطاعت أن تنتصر عليّ دون أن تمسّني أو تقرب منّى..جعلتني عدوّة لنفسي حتى قتلتُ تفسي بنفسي دون أن تحرّك هي ساكنا بدورها..راقبتني وانا أرمي بجثماني الى التهلكة عن بعد وانتصرت! ذرفت روحي راية الهزيمة دموعا واختفت الفراشات في جحر الورود وانا بدوري انسحبت الى أناة وحدتي ورحمتها كما كنت وكما سأكون دوما!