اللجوء إلى العنف ، و الحلول الأمنية دليل دامغ على الإفلاس المنطقي ، و القدرة على الإقناع بالحجة و البيان .
هذا القول لا يمكن أن يختلف عليه إثنان يتمتعان بقدرات عقلية سَوية .. و المُكافح المُجادل لهذه الحقيقة ، هو إلى الإختلال أقرب .. لا زلت أتذكر ذلك اليوم التاريخي ، الذي أعلنت فيه لجنة الإنتخابات الفلسطينية ، فوز حركة حماس بالأغلبية ، و كيف قبل الرئيس الفلسطيني ، وحركة فتح و تنظيمات منظمة التحرير و الشعب ، و كافة العقلاء هذه النتيجة .. و تم تشكيل أول حكومة بقيادة الفصيل الفائز ، حماس ، و أقتبس هنا بالنص ما قاله الرئيس في مؤتمر صحفي عقب الإنتخابات : " بـنفس اصراري على اجراء الانتخابات، انا ملتزم بتطبيق البرنامج الذي انتخبت على اساسه، برنامج نهج المفاوضات والحل السلمي والتمسك بالثوابت الوطنية ودولة مستقلة".
واعتبر عباس انه يتوجب على الحكومة الجديدة ان "تكسب رضا الاسرة الدولية وأن يكون لها خطة للتصدي للاستيطان بكل اشكاله وللجدار". و لا زلت أتذكر جمل المديح و الشكر التي أكالها الدكتور محمود الزهار للرئيس محمود عباس و بأن التاريخ لن ينسى موقفه هذا ، و فعلاً ، التاريخ لا ينسى ، و أي مهتم يستطيع العودة إلى الأرشيف و الأخبار و المؤتمرات الصحفية ، و أقوال الزهار ، و هنية و غيرهما في تلك الفترة ، بل يستطيع أن يقرأ كتاب التكليف الرسمي من الرئيس لهنية ، حول شكل و أهداف و سياسات حكومة الرئيس التي سيرأسها إسماعيل هنية .. الغريب ، العجيب هو ما قاله الزهار في حديثة لقناة الجزيرة القطرية .. و الذي لا يختلف كثيراً عن كل ما آلت إليه الأمور سواء بعد حلف اليمن بالله العظيم على القرآن الكريم أمام الرئيس ، على إحترام القانون و الإخلاص للشعب والقضية ، و إقامة الحكومة التي تأتمر بأمر الرئيس و تنفذ سياساته و البرنامج الوطني بأمانة ، و بين القسم على أستار الكعبة بإنهاء الإنقسام ..
ليس هذا هو المهم ، فتلك ايام خلت ، و صفحات طويت ، المقلق هنا أننا وفي هذه الأيام نشهد تكراراً للمشهد و الموقف ذاته ، فقد قالوا قديماً ( الطبع يغلب التطبع ) و ( يموت الزمار و أصابعه تلعب ) ، فقد كان لقاء الزهار على قناة الجزيرة القطرية ، و التي حاولت و تحاول هي و بلدها مشكورين ، بكل إمكاناتهم مساعدة أهل غزة المساكين ، فيتصلون بحماس و يدفعون رواتب موظفي حماس ، و أرجو من الجميع عدم الإنصياع لما قد يذهب إليه خيالهم من أن هذه رشوة إنتخابية لا سمح الله من حيث إختيار التوقيت ، أو تجميل لوجه حماس قبيل الإنتخابات ، لا و ألف لا ، فقطر دولة عربية شقيقة ..
ولكن المقابلة إحتوت بين السطور ، كلاماً للسيد الزهار يشي بأن هناك شئ ما ،و أن وراء الأكمة ما وراءها .. و أن حماس بدأت تستشعر الخطر من الإنتخابات البلدية كمقدمة للإنتخابات التشريعية و الرئاسية بعد أن كانت تظن أنها سترتاح من حمل ثقيل و تحرج غيرها في حمل ملف خدماتي ثقيل .. و أنها على ما يبدوا وصلت لقناعة بعد أن قامت بقياس الرأي العام بأن هناك خطر حقيقي ، فبدأ السيد الزهار في عزف نفس الألحان القديمة سواء في لقاء الجزيرة أو ما تلاه من تصريحات ، و بدأ ناطقي حماس بتذكر الإعتقال السياسي ، و كوادرهم في الضفة ، و معاملة أتباعهم ، و قالوا علانية ، أنهم سينسحبون من الإنتخابات إذا إستمر كوادرهم رهن " الإعتقال " في الضفة الغربية و بدأت قوات حماس الأمنية بالضرب تحت الحزام ، تمنع التجمعات و اللقاءات الجماهيرية و تطارد أنصار فتح و تقتحم الجامعات ، و تستدعي الناس للإستجواب ، كل هذا رغم ميثاق الشرف .. نعم أكرر " الشرف " الذي تم توقيعه .. تماما مثل القسم الغليظ على أستار الكعبة .. و ربما أيضاً مثل القسم على المصحف بالولاء للبرنامج الوطني تحت قيادة الرئيس ...
الحنث ، و تغيير المواقف ، و المزاجية ، و قولبة كل شئ على "مقاس" قالب الحزب و رؤيته ، بدءاً من المصالح السياسية و إنتهاءً بالدين نفسه .. أمر غير محمود ، و تكراره يورث الفشل ، و فقدان الثقة بلا رجعة... و الشئ بالشئ يذكر ، فقد حضرتني قصة و أنا أكتب هذه الأسطر ، سأقصها عليكم ، ، حتى نستفيد منها جميعاً و لا نقع في ما وقع " قراقوش " فيه و أوقع الناس بجريرة تعسفه و مزاجيته و أهوائه .. فقد كان يسير بخطى مليئة بالزهو ، و الخيلاء ، مصعراً خده ، ممتشقاً سيفه ، و ينظر إلى الناس في الطرقات ، بتشفٍ و غرور .. فهو المنتصر ، القوي ، و هو صاحب السيف و المجن ..
لم يأبه قراقوش بمناظر البيوت المهدمة من حوله ، و بكاء الأطفال ، و طوابير الجوعى ، و المرضى ، و الثكالى ، و الشباب الضائع ، على نواصي الطريق ، كان يبادرهم بإبتسامة ، و يرمي لهم بعضاً من الحبوب يبتلعونها ، فيبتسمون ببلادة .. ثم يرفع يده بعظمة و فخر ، في إشارة منه لهم للبدء بالهتاف .. فيكبرون و يهللون ، و يعظمون إسمه و حكمه .. قراقوش ، كان منتفخاً ، و مؤمناً بما يفعل .. ويكفى القول أن قراقوش كان أحيانا يعاقب المظلوم، ويكافئ الظالم، وأحيانا أخرى يصدر أمرا عجيبا بإغلاق باب المدينة، حتى يتم الإمساك بصقر كان يربيه . معتبراً أي شئ يخصه " ضرورة دينية قومية وطنية" وكل من يخالفها يحاسب حساب الخونة و المرتدين .. و ساعده على هذا ، خنوع و خضوع المساكين من الناس ، بالخوف و الترهيب فعمد على إلهائهم ، بالجوع و شظف الحياة و نكد العيش ..و اشتهر قراقوش في اسلوبه و إدارته و حكمة إلى جانب القسوة ، أنه كان " يقلب ظهر المجن" و يقلب الحقائق ، و يختلق الأعذار ، و يزيف التاريخ .. و بالمناسبة المِجَنُّ هو التُّرسُ، ويقولون: "قَلَبَ له ظهرَ المِجَنّ" أي عاداه من بعد مودّة. يُضرب لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية ثم حال أو خان عن العهد. وقد كانت بعض مواقفه توصف بالكوميدية الطريفة ، أو بمعنى أدق بالكوميديا السوداء ، مضحكة مبكية مأساوية، فهذا الحاكم الذى ابتلى الله به الناس، اشتهر بالظلم، والجور، والأحكام العرفية، وأيضا تقلب المزاج، وغرابة الأطوار. ومن الروايات الطريفة التى رويت عن قراقوش، أنه كان ذات مرة يسأل أحد أصدقائه المقربين عن لقب مناسب يمكن أن يضيفه إلى اسمه، فيضفى عليه الوقار والمهابة. فسأل قراقوش صديقه: "يا صديقى إن عندنا ألقابا كثيرة مثل"الموفق بالله"، و"المتوكل على الله"، و"المعتصم بالله"، فماذا تلقبنى من هذه الألقاب". فرد عليه صديقه قائلا: "وبما أنك أخذت رأيى فإنى أسميك "أعوذ بالله".


