وُصِمَت كل محاولات الشعوب العربية لنيل الحرية والعدالة والمشاركة في تقرير المستقبل وبناء ديمقراطيات بالمؤامرة. وجرى التشكيك بوجود إرادة شعبية عربية للتغيير، وجرى إنكار وجود انتفاضة شعبية أصلاً في سورية، برغم وفرة المعلومات وتقنية وحداثة الاتصال وصور الأقمار وتقارير المراقبين والمنظمات الدولية، والأخطر جرى السكوت على المجازر والانتهاكات والقمع الدموي الذي يمارس بحق الأبرياء.
تلك المواقف التي تتناوب عليها قوى ونخب وأفراد هي في حقيقة الأمر مواقف الأنظمة المستبدة المعادية والرافضة للديمقراطية والمستهدفة بالتغيير. هي في حقيقة الأمر تفريط وغدر بالديمقراطية، وتأكيد العداء لها في الوقت الذي كشفت فيه عن هشاشة وضعف ثقافة الديمقراطية لدى القوى والنخب.
الذريعة التي يقدمها المفرطون بالديمقراطية وبحق الشعوب في الحرية، هي وجود ثورات مضادة وتدخلات إمبريالية ورجعية، ووجود خطر سيطرة قوى التكفير والأصولية على مقدرات البلدان.
تلك المخاطر الموجودة فعلاً والمترافقة دائماً وأبداً بكل ثورة ومحاولة تغيير، والتي تجعل من عملية التغيير وانتزاع الديمقراطية صيرورة عسيرة وطويلة الأمد. لكن وجودها لا يقود إلى التخلي الكامل عن الحق في التغيير الديمقراطي، وإلا لفقدت كل ثورة في تاريخ البشرية مبررها، واستحال التغيير، وصارت الأنظمة المستبدة قدراً أبدياً ثابتاً إلى ما لا نهاية. وكل هذا يعني في المحصلة الأخيرة تسليماً بالرؤية الاستشراقية الكولونيالية التي تزعم بأن الشعوب العربية تفتقد إلى ديناميات التغيير الداخلي، وأن العالم العربي غير قابل للديمقراطية ولا يمكن أن يتغير إلا من الخارج.
إن وجود المخاطر الآنفة الذكر، يستدعي مواجهة المخاطر والعمل على قطع الطريق عليها، انحيازاً لمصلحة الشعوب في التغيير، وليس رفض محاولات الشعوب العربية ومواجهتها بالتشكيك والضغوط والحث المتواصل على التراجع، والاصطفاف الصريح مع القوى التي ترفض التغيير الديمقراطي والتسليم بالأمر الواقع.
ومن المفيد هنا التوقف عند القوى التي لا ترغب بوجود ديمقراطية في العالم العربي، وتقاوم كل مسعى لبنائها.
يقول المفكر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي: تعرضت كل المساعي لإقامة ديمقراطية في الشرق الأوسط إلى التدمير من قبل قوى غربية، كإطاحة أميركا وبريطانيا بالحكم البرلماني في إيران (ثورة مصدق) عام 1953، وبتنظيم انقلاب ضد ثورة 58 العراقية، كما قاومت دول الغرب بشراسة نشوء ديمقراطيات في أميركا اللاتينية ودعمت الديكتاتوريات العسكرية، وأصيبت بالذعر جراء الربيع العربي لأنها لا تريد أن تنشأ ديمقراطيات عربية، ولأن أي ديمقراطية ستقود إلى طرد الولايات المتحدة من المنطقة».
وكشف تشومسكي عن مذكرة سرية صادرة عن هيئة التخطيط العليا الأميركية تقول: هناك شعور في العالم العربي بأن الولايات المتحدة تسد الطريق أمام الديمقراطية والتنمية وتدعم الديكتاتوريين».
ويخلص تشومسكي إلى القول: إن «الديمقراطيات الغربية هي التي تمنع نشوء ديمقراطيات عربية».
وفي تجربة الربيع العربي، تصرفت الديمقراطيات الغربية بذكاء عندما أيدت المساعي الشعبية لتغيير أنظمة في العلن، ووضعت كل جهودها لاستبقاء النظام القديم واقتصار التغيير على بعض من رموزه، واستبدال نظام مستبد بآخر مستبد، حفاظاً على علاقات التبعية السياسية والاقتصادية والأمنية، وللحيلولة دون التحول الديمقراطي كما في الحالة السورية.
أمام هذه المعادلة الخطيرة اكتفت قوى اليسار التقليدي والقومي بإشاعة الذعر من التدخل الغربي في شقه الأول العلني، وهو تأييد التغيير الشكلي باعتباره مؤامرة خارجية تستدعي «توقف الثورة أولاً»، وتعامت أو لم تبصر التدخل الجوهري والأخطر وهو استبقاء النظام القديم وقطع الطريق على الديمقراطية (النموذج المصري والتونسي واليمني والسوري)، ولم تقاوم المؤامرة الفعلية الأخطر على الديمقراطية، ولم يساورها أي قلق إزاء ما يجري من عصف بالديمقراطية، كاشفة بذلك عن عدم حساسيتها أو اكتراثها بالديمقراطية «الفائضة عن حاجة الشعوب العربية» فقد كشف موقفها عن افتقادها هي للديمقراطية وهنا مربط الفرس، فالديمقراطية يصنعها ويدافع عنها ديمقراطيون.
مشكلة التدخل الخارجي الوثيق الصلة هو الدفاع والحفاظ على المصالح الحيوية واستمرار نهبها، لكنه ليس كل شيء، فقد تغلبت شعوب أميركا اللاتينية خلال عقود من النضال الدؤوب على ذلك التدخل وتمكنت من بناء ديمقراطيات كان لها بالغ الأثر في تطورها الاقتصادي الاجتماعي.
أما نحن في العالم العربي فلم يمض 5 سنوات نضال من أجل الديمقراطية وهي فترة قصيرة جداً، قبل أن ينقطع نَفَس «القوى الديمقراطية» و»الديمقراطيين» الذين ملؤوا الدنيا ضجيجاً بالحديث عن الديمقراطية قبل ثورة الشعوب العربية من أجل الديمقراطية».
كان يلزم للمعنيين بتحقيق الديمقراطية، كشرط لا غنى عنه لتطور شعوب المنطقة واستقلالها وخروجها من إسار علاقات التبعية، التوقف عند الأسباب الداخلية والاستعصاءات التي تحول دون التقدم في طريق الديمقراطية والحرية. وبالتوقف عند تجارب شعوب نجحت في انتزاع الديمقراطية. لقد أوضح المفكر جلبر أشقر نوعاً من الاستعصاءات التي تكبح كل تقدم نحو الديمقراطية عندما قال: «نحن أمام حالة خاصة، فالجماعات الحاكمة تملكت الدولة على طريقة الدولة الميراثية حسب «ماكس فيبر»، وأصبحت الجماهير أمام جهاز دولة قائم على نهب منظم للبلاد لصالح الملك الخاص للأفراد والعائلات المشرفة عليه»، بمعنى حولت اقتصاد البلد إلى ملك خاص لأركان النظام.
ويضيف جلبر: «في مثل هذه الحالات يتمسك المتربعون على النظام بنهبهم للدولة ويقاتلون حتى آخر جندي لديهم دفاعاً عن نظامهم، ويعتمدون على حرس أو «قوات خاصة» بهم، بحيث لا يمكن الإطاحة بهم وبالحاكم أو تغييرهم إلا بإلحاق الهزيمة بالحرس الخاص، وبالفئات الاجتماعية المستفيدة من النظام القائم».
هذا يفسر لماذا جرى قمع الحراك السلمي جداً في سورية منذ البداية، ولماذا تطور القمع الدموي إلى القضاء على النضال السلمي الذي طالب بالتغيير.
وهذا يختلف عن تجربة أوروبا الشرقية التي شهدت تسلط بيروقراطية على الدولة لها مصالح، لكنها لا تملك الدولة ولا تملك الاقتصاد كملك خاص لأفرادها، ولهذا لم تكن مستعدة للاستماتة والاستشراس في الدفاع عن النظام، فاستجابت سريعاً للإرادة الشعبية دون مقاومة تذكر، وسَعت للاندماج في النظام الجديد.
لقد أعاد النظام العربي بناء الدولة بمختلف مؤسساتها على مقاس مصالحه الأنانية الضيقة، وانطبق عليه قول: «أنا الدولة والدولة أنا». والاختلاف من بلد لآخر ينحصر في بنية أوسع كما في النظامين المصري والتونسي، وفي بنية أضيق تنحصر في شخص الحاكم وحاشيته وطائفته أو قبيلته كما في سورية وليبيا واليمن.
الجمود الاقتصادي وانهيار التنمية اللذان قادا إلى الانفجارات، والاستعصاءات الداخلية المدعومة خارجياً، لا تبرر إدارة الظهر للمساعي الشعبية العفوية، والمساعي الديمقراطية المنظمة، وصيرورة الانتقال للديمقراطية الصعبة والشائكة.
Mohanned_t@yahoo.com


