ليس من عادتنا في وكالة "سما" التطرق بصورة غير عادية الى احداث فردية تتعلق بوفاة صديق او قريب او عزيز، فغزة لا يغادرها الموت والقهر والحرمان والشكوى منذ نشوء الامتداد الوجداني الحديث لهذا المكان وارتباطه بقضية فلسطين كلها "قضية اللاجئين الفلسطينيين".
ولكن ما اثار شجون التاريخ والجعرافيا وحصار العقل والمكان هو تفاصيل الحدث الجلل الذي اصاب الدكتور احمد يوسف في وفاة ابنته "شيراز" والتي من خلالها تجسدت مأساة الفلسسطينيين والغزيين بصورة خاصة مهما علا شانهم ،في احداث التواصل المادي مع الحبيب او القريب او المصارع لموت حتمي في مكان ما، هناك خلف الاسلاك المحيطة للسجن الاكبر في العالم المسمى "غزة".
"شيراز" هذا الاسم النادر ومسماها الاحدث "ام يقين" لم يخلق لديها يقينا او لدى والدها وعائلتها بان لقاءا عابرا قد يتم في يوم ما او في لحظة مسروقة، لان اشتراطات المكان والسجن والجغرافيا تتجاوز مشاعر الفطرة والحب والاماني.
سبعة عشر عاما تتمنى هذه الـ"شيراز" الغزية المحرومة حتى من تنسم عبير سجن عائلتها ،عناق والدتها، والسير في فضاءات الفطرة والطمأنينة كما كل البشر، حتى لو كان الحديث عن غزة المقهورة والمحاصرة والطريدة.
انه الموت ايها الغزيون يلاحقكم هناك، يمنعكم من التمني والغوص بعيدا في احلام اللقاء والسفر او الشفاء..
"شيراز" هي تعبير صارخ عن سيمفونية الموت الغزي القائم باركانه الصارخة "الاحتلال والانقسام" والذي جعل احلامنا الصغيرة بوابة موتنا،تحت جداريات االوهم والعبثية والتي لا تتجاوز انف من رسمها واراد لها عنوانا لظلم اكثر من مليوني انسان لا يملكون قرارا الا بموتهم والذي قد يحدث في كل لحظة دون مقدمات.
وجدت "شيراز" كاتبا ومفكرا وسياسيا بارعا هو والدها "احمد يوسف"ليعبر عن مأستها بمرثية انسانية رائعة، رسمت صورة درامية لحال الغزيين وقلة حيلتهم في مواجهة اجتياحات احلامهم وشوقهم، في لحظات ضعف انساني كبير وغير مسبوق.
لم يجد "احمد يوسف" في مرثيته "الشيرازية" الا ان يطلب ويتمنى لقاء ابنته هناك في عليين، لان مساحات اللقاء الانسانية في غزة وما حولها غادرت بلا رجعة والموت هو اجابتها الوحيدة الحاسمة والتي تعيدنا الى مربع الحقيقة رغم كل الاحلام المتواضعة في لقاء او عناق او الخروج من السجن لبرهة والعودة اليه.
ومما لا شك فيه انه قد اصبح وجوبا وفرض عين على سكان هذا المكان تذكر دعاء رسولنا "صلى لله عليه وسلم" والذي عاش اخطر لحظات الضعف الانساني في بداية دعوته العالمية عندما خاطب ربه"( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، أرحم الراحمين ، أنت أرحم الراحمين ، إلى من تكلني ، إلى عدو يتجهمني ، أو إلى قريب ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ).


