ستكون الانتخابات البلدية, في حالة اتمامها, مرحلة أخرى من مراحل تصفية منظمة التحرير بل وحتى السلطة نفسها أو على الأقل من أحد الأدوار المهمة والمزعجة بالنسبة لها وهو توفير الخدمات للفلسطينيين. في اليوم التالي لإعلان نتائج انتخابات المجالس البلدية سنكون امام واقع جديد, وأقصد هنا تحديداً في ضفتنا العزيزة, وهو أن الجسم الوحيد الذي يستمد شرعيته من الشعب هو المجلس البلدي أو القروي. وفي ظل تحكم إسرائيل في كل صغيرة وكبيرة من مقدرات الناس ومعيشتهم وعجز السلطة المتراكم والمتزايد وتوغل أعوان الحاكم العسكري الإسرائيلي, الذي سيضغط بلا شك باتجاه التعامل مباشرة مع المجالس وتجاوز السلطة العاجزة. وفي طروف معيشية صعبة وتحت ضغط تحقيق انجاز ما للمجلس البلدي, سيجد لا شك التعاون المباشر بين المجلس أو على الأقل بعض أعضائه مع الحاكم العسكري طريقه. سينتهي دور السلطة الخدماتي وتتخلص من عبئ توفير أدنى مقومات الحياة الكريمة للناس, مع بقاء ما يلزم لكي تصبح فقط جهازاً أمنياً يحقق الأمن للموستوطنين ويسهل المزيد من مصادرة الأراضي وإقامة الشوارع لهم ولتقطيع أوصال الضفة الغربية.
لا أعتقد مطلقاً بفرضية أن عباس استيقظ صباحاً وأصبح ديمقراطياً ويريد انتخابات. من المرجح أنه أعلن الانتخابات البلدية تحت ضغوط إسرائيلية وربما دولية لتمرير السيناريو الذي ذكرت آنفاً. فلو أرادها ديمقراطية حقاً بما يحافظ على شرعية منظمة التحرير لعقد المجلس الوطني أولاً حسب الأصول الديمقراطية وليس كما أراد أن يعقده العام الماضي في أغسطس والتي كان يهدف منها أيضاً تقزيم دور المجلس والمنظمة. لو أرادها ديمقراطية لشرع أقله في خطوات عقد انتخابات للمجلس التشريعي. ولكن هذا يجب أن يبقى معطلاً, كي يتم تطبيق سيناريو تفكيك وحدة أراضي السلطة بدون مشاغبات.
هناك في قانون المجالس القروية لدى السلطة, ما يسمى اتحاد المجالس القروية وهو عبارة عن جسم تمثيلي لعدة مجالس قروية متجاورة. سيتم تفعيل هذه الآلية ليسهل تجميع القروى الفلسطينية, تحيط بها المستوطنات من كل جانب. ومع اكتمال الجدار وإقامة البوابات, سنكون أمام واقع المعازل, تماماً كما كان الوضع في إبان نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا. مسؤولية الأمن داخل هذه المعازل ستكون لأحد أمراء التنسيق, أما الأمور الأخرى فستكون في يد الحاكم العسكري. تعدد الأجهزة الأمنية لدى السلطة وصراع رؤسائها على النفوذ والحظوة لدى الحاكم العسكري وحقيقة أن كلاً منهم من منطقة جغرافية مختلفة من الضفة يعزز سيناريو المعازل والدور الأمني المنوط بهم.
ماذا لو فازت حماس في بعض أو أغلبية المجالس البلدية؟ فليكن!! فهذا لن يتعارض مطلقاً مع تطبيق سيناريو التفكيك والمعازل. بل على العكس سيعززه ويعطي إسرائيل أداة أخرى لتعزيز مبدأ “فرق تسد” وتأجيج الصراعات داخل المعازل. وربما سيكون وسيلة أخرى لمزيد من محاولات ترويض واستئناس حماس والتي بدأت منذ مشاركتها في انتخابات التشريعي للعام ٢٠٠٦.
المعركة على الضفة الغربية, أي معارك أخرى تراها إسرائيل في المرحلة الحالية معارك جانبية. فالحرب جنوباً هي مع غزة وليست على غزة. فقد تحقق فصل وعزل حوالي مليونين من الفلسطينيين والتخلص منهم منذ أن انسحبت إسرائيل من داخلها في ٢٠٠٥ وتلاها انسحاب السلطة في ٢٠٠٧. وتكوّن أول معزل يديره سكانه ويتصارعون فيما بينهم, بينما تتحكم إسرائيل بكل ما يدخل ويخرج منه. وإن لزم الأمر أرسلت جيشها لتأديبهم بين الفينة والأخرى. “البايلوت بروجكت” نجح في غزة, فلنطبقه في الضفة الغربية إذاً, حسب التفكير الإسرائيلي.
السلطة الفلسطينية تؤدي الدور المطلوب منها بشكل مثالي. لا يغرّنّكم مشاغباتها الإعلامية من حين لآخر فهذه أيضاً لا تخرج عن حدود مقبولة إسرائيلياً. أنظر دور السياسة الخارجية للسلطة في التبرير للدول العربية والإسلامية التي تمضي في إقامة العلاقات مع إسرائيل. دور جبريل الرجوب في زيارة الوفد السعودي مثلاً !! أو تصريح رياض المالكي الأخير حول إعادة العلاقات بين تركيا وإسرائيل. أما ملفات المحكمة الجنائية والتحركات في الأمم المتحدة فقد باتت في طي النسيان وباتت المبادرة الفرنسية هي “اللعبة السياسية” الجديدة.
كان لفصيل يساري دور بارز في إفشال عقد جلسة المجلس الوطني في العام الماضي حسب شروط وأهداف عباس منها. ولكن هذه المرة اختارت فصائل اليسار جميعها هذه المرة أن توافق, بل أن تهلّل وتكبّر للانتخابات البلدية. وسوّقت بشكل بارع موافقتها ومشاركتها عبر إعلان ما سموه بالتحالف الديمقراطي. أي عبر دغدغة الأمل لدى الناس بكسر ثنائية الفصيلين الكبيرين. هل نجحت السلطة فعلاً في احتواء جميع فصائل المنظمة تحت أوسلو و”خارطة طريقه”؟ آمل ألا يكون قد فات الأوان.
صحفي فلسطيني


