لم يتأخر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الرد داخلياً وخارجياً على الانقلاب، الذي يبدو يوماً بعد يوم ومع تكشف المزيد من الحقائق، أنه كان بالأساس تحركاً بدعم وقرار من الخارج ومن الولايات المتحدة تحديداً. وهكذا كان الاتهام العلني، الخطاب التشاجري بعد الانقلاب مع الغرب الأميركي والأوروبي، اما الزيارة التاريخية التأسيس للتحالف الاستراتيجي في نهاية هذه الرحلة الأولى للرجل بعد الزلزال الداخلي، فالى روسيا للعناق مع «الصديق» العزيز بوتين. وكرر أردوغان مخاطبة قيصر موسكو بالصديق ثلاث مرات.
ان صفحة جديدة في العلاقات بين تركيا وروسيا لم تفتح في هذا اليوم التاسع من شهر آب، ولكن حدثاً تاريخياً تشير كل التوقعات الى انه سيكون له ما بعده على مستوى التوازن، يجري على هذه الحواف الجيوسياسية للسهل الأوراسي، والذي قال عنه مرة الزعيم البريطاني الشهير ونستون تشرشل بأن من يتحكم به يحكم العالم، وانه قلب الجغرافيا العالمية.
هاتان هما اذن الامبراطوريتان الغابرتان في عهود التاريخ ولكن الدولتين الفتيتين اليوم، الصاعدتين اقتصاديا وسياسيا بسرعة البرق، اللتين تقبضان على هذه الحواف الجنوبية والشمالية لهذا الساحل الأوراسي. وان الرسالة التي تم إيصالها الى الغرب كانت هذه المرة شديدة الوضوح، لم يعد القرار احتكاراً يتخذ على الحواف الأوروبية الأميركية المقابلة للمحيط الأطلسي، وانما نحن هنا من يملك القرار هنا على الحواف الأورو آسيوية، وسوف نقرر بمعزل عنكم او بالتوافق معكم سيان.
هذه نقطة تحول في التاريخ، وهي تبدأ بحدث او بخطوة أولى، ولكنها في القراءة الأعمق اكبر من كونها حدثاً، وإنما عملية او سيرورة اذا كانت العملية او السيرورة المقابلة على حواف الأطلسي هي الانقسامات والتصدع، انقسام الولايات المتحدة على نفسها وانفصال بريطانيا عن أوروبا، وغروب العصر الأميركي عن الشرق الأوسط.
وهنا على مسرح او ساحة هذا الشرق الأوسط اذا تحدد ميدان المعركة او المبارزة المقبلة او الملتقى في المواجهة، وحيث سورية هي مفتاح هذا التوازن العالمي الجديد. وما حدث يوم التاسع من آب انما هو انقلاب قاده هذه المرة رجب طيب أردوغان على النتائج التي كان يهدف اليها الانقلاب الغربي عليه، إعادة تقرير مصير سورية والشرق الأوسط بالتوافق على الخريطة الجديدة على حساب تركيا، بل وزوالها كدولة محورية وموحدة من الخارطة، وكذا بالجملة على حساب التحالف السني الذي يضم الى جانب تركيا السعودية وقطر.
هيا اذن الى موسكو للتوصل الى عقد هذا التحالف الأوسع وتقرير مصير سورية، ورسم الخريطة رداً على الخذلان الأميركي، بل وانكشاف دوره في المؤامرة للقضاء على تركيا وإخراج التحالف السني من اللعبة. هيا اذن لإنهاء اللعبة السورية وبدلا من الاتفاق الأميركي مع روسيا بلعب الورقة الكردية لتقسيم تركيا، الاتفاق السني مع روسيا.
أي هيا للاتفاق هنا بين الأطراف الفاعلة في الإقليم، وهل ثمة مصادفة انفتاح معركة حلب في هذا التوقيت؟ ولكن على نحو بات يقرر مصير التوازن كما التسوية السياسية في سورية بصورة لم يسبق لها مثيل؟ وذلك أيضا بعد فشل الانقلاب في تركيا. ما يطرح تساؤلات ان كان هذا ردا تركيا تم الإعداد له على عجل لا ضد روسيا وانما ضد التخاذل الأميركي على وجه الخصوص، بما في ذلك اقناع جبهة النصرة فك ارتباطها بالقاعدة لتوحيد المعارضة السنية.
ولا شك أن الفائز او الرابح الأول والرئيسي من هذه التقلبات الدراماتيكية والعاصفة انما هو فلاديمير بوتين، الذي يحقق لأول مرة حلم القياصرة الروس الكبار بطرس الأكبر وكاترين الثانية، التي قالت ذات يوم: إن مفتاح بيتي أي روسيا يوجد في سورية. وهل مصادفة ان اختار بوتين استقبال أردوغان في القصر والمدينة التي تحمل اسم هذا القيصر العظيم بطرس الأكبر؟ أي الذي قال انه يجب على روسيا لكيما تكون امبراطورية عظمى ان تصل سفنها وأسطولها الى المياه الدافئة في البحر المتوسط، وان يمتد نفوذها حتى بلاد فارس.
ومد ستالين نفوذ روسيا والجيش الأحمر بخلاف وصية بطرس على الساحل الأوراسي وفي البلقان، وصولا الى اقتسام القارة الأوروبية مع روزفلت وخلفائه من الرؤساء الأميركيين، وكان ذلك ربما ثأراً وانتقاماً تاريخياً من ثلاث هجمات كبرى قام بها خلال القرون الخمسة الماضية ثلاثة أباطرة أوروبيين لاحتلال روسيا عبر هذا الساحل، شارلمان ونابليون وهتلر. لكن وحده قيصر روسيا الجديد من سيحقق رغبة وحلم بطرس وكاترين، ليس بالسيطرة على سورية فقط ولكن بمد النفوذ الروسي حتى ايران.
وهذه هي المسألة الشرقية المطروحة اليوم بصيغتها التاريخية الجديدة خلافاً لزمن رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون في منتصف القرن التاسع عشر، والتي كانت روسيا مغيبة عنها تماما. وفي هذه الصيغة الجديدة ليس التخطيط لاقتسام تركة الرجل المريض السلطان محمود الثاني، الذي تصدت سفن المدفعية البريطانية لإنقاذ عرشه من جيوش إبراهيم باشا النجل الأكبر من أبناء محمد علي. ولكن لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بالاتفاق مع السلطان العثماني الجديد، وخليفة أعظم سلاطين بني عثمان، الذين بنوا بالسيف مجد تركيا التليد، وذلك انطلاقا من التفاهم حول اقتسام مصير سورية.
وحدها الدول العريقة ذات الإرث التاريخي الدولاني السياسي والحربي، من لا تخجل او تتردد بالتراجع عن أخطائها وتسارع الى تصحيحها، ووحدها هذه الدول التي تملك هذا الإرث وأرشيفا ممتدا من التجارب السياسية والحربية، من تقدم على التسويات حينما تفرض الضرورة ذلك. ولا تتصرف هنا بعقلية او غريزة القبيلة.
وهكذا هل أدركت تركيا حتى قبل حدوث الانقلاب الفاشل خطأ تدخلها في الأزمة السورية؟ التدخل الذي تم بغطاء من أميركا والغرب ليتبين لاحقاً ان فتح باطن الدولة السورية قلب الشام، هي لعبة خطيرة اكبر من قدرة أي طرف على السيطرة عليها او احتواء نارها. وان هذا هو بالأخير ما حدث بالضبط، أي ما كنا نقوله ونحذر منه نحن هنا ومعنا قلة قليلة من الكتاب العرب قبل خمس سنوات.
لا بأس اذن، فوحدها تركيا اليوم وزعيمها المجروح من الغرب كالاسد الجريح الذي ينزف دما، ويتحرق للثأر من من كانوا يدعون انهم حلفاء له وأصدقاء، ولكنهم حاولوا ان يطعنوه من الظهر. هذا وحده الزعيم المؤيد والمحبوب من شعبه، باعث عظمة تركيا الحديثة. من يستطيع اليوم إغلاق الجرح السوري ووقف هذه المهزلة والإهانة بل والخديعة، التي ترقى الى حد الجريمة. وقف شلال الدم السوري بالتفاهم مع روسيا ولكن أيضا مع إيران، ولإغلاق وإطفاء نار هذه الفتنة التي كانت راقدة على مدى ألف وأربعمائة عام، بإعادة نفخ الروح في الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة.
هل يفعلها إذن اردوغان؟ بالتحالف مع روسيا وإيران وتاليا الجمع بين كلا المعسكرين، وتشكيل الائتلاف الخماسي بانضمام السعودية وقطر الى هذا الحلف الخماسي؟ لإغلاق هذه الملفات المتفجرة في هذا الشرق من سورية الى العراق الى اليمن؟ ويكون هذا هو ميلاد الشرق الأوسط الجديد ومعه ميلاد دولة فلسطين؟ دعونا نحلم ولكني أظن ان هذا هو المآل المحتوم في نهاية هذه الطريق، حتى ربما في ذروة هذا الجحيم في حلب أو اليمن والعراق، فإن ساعة الحقيقة تبدو في الشرق الأوسط تقترب.


