( ح6 )
( إستعرض الكاتب في الحلقة الخامسة تداعيات ظاهرة تداخل الدين وإدراة الدولة و كيف وقع المسلمون في ما وقعت فيه الأمم السابقة من فتن مذهبية وطائفية ..)
من كل هذا ، أريد أن أصل إلى نقطتي ، و هدفي ، مؤكدًا على أنني لا أقول بِوُجوب محاربة الدّين و العياذ بالله، أو نّبْذ تاريخنا، فالمُشكل ليسَ في تاريخ دِيننا ، دِيننا لمْ يكذِب في تَاريخه، وإنما كذب في الدين كُتَّــاب التاريخ، و لا مَندُوحة لنّا إلا التقدم صوب النموذج الأفضل ، و الأّصّح ، نموذج دولة النبي ،وما تَبعها من الجُمهوريات المُصطفويّة الخَمس ، أملاً في الوصول إلى الجمهُورية السادسة .. وللوصول إلى هذا ، لابدّ أولا من المُصارحة و الواقِعيَّة في طرح المُشكل ، و تشخِيص الدّاء ، و بناءً عليه تحديد الدَّواء . و لا مَحيْص و لا مَهرب من الصَّدح و الصَّدع بأهمية تغيير مفهومنا لمعنى الدولة المَدنِية العَلمَانِيّة .. و التي أرى أنها من أهم صِفات دولة النبي عليه الصلاة و السلام و الجُمهوريات المصطفوية الأربعة .
و لتوضيح بما أعنية بِمُصطلح و مَفهوم " علمانية " أقول : المقابل اللّغوي العربيّ لكلمة Secularism العلمانيــة بالإنجليزية يترجم حرفياً " دُنيَـويـَّة "، وكان يُستعمل هذا المُصطلح لوصف العَامّة من غير رجال الدين قبل أن يتّخذ دِلالة سِياسِيَّة، وقد يظن البعض أن المصطلح في اللغة العربية لمعنى الكلمة هو" العلمانية " وهي مشتقة من كلمة العَالم أو العِلم، وهو المصطلح الذي يستخدمه بعض الكتاب لتجنب الارتباك، في حين يفضل البعض الآخر مصطلح الدنيوية على النقيض من "الدينية".و مصطلح العلمانية هو ترجمة غير دقيقة، وغير صائبة لكلمة علمانية في الإنجليزية، أو Secularite أو Lauque بالفرنسية، وهذه الكلمة حسب أصلها في اللاتينية لا علاقة لها بلفظ العِلم ومُشتقاته، على الإطلاق. فلفظة العِلم في الإنجليزية والفرنسية Scientifique ، يعبر بالعربية الصحيحة بكلمة عِـلْمَوِيّة . وذكرت تعريفات متعددة للعلمانية أفضلها وأشهرها للفرنسي جان بوبيرو الذي شبه العلمانية بمثلث :«الضلع الأول فيه (وهو يتعلق بخاصية العلمانية) هو عدم تسلط الدين (أو أي نوع آخر من المعتقدات) على الدولة، ومؤسسات المجتمع والأمة والفرد، والضلعان الآخران من المثلث هما: حرية الضمير والعبادة والدين والعقيدة، وذلك في التطبيق المجتمعي وليس كمجرد حرية شخصية باطنية. والمساواة في الحقوق بين الأديان والمعتقدات؛ مع ضرورة تطبيق هذه المساواة واقعيا ومجتمعيا». ويوجد هذا التعريف كنصوص في كثير من دساتير العالم و معظم الدول العربية و الإسلامية التي استمدت مواد دَسَاتيرها من الدَّين الإسلَامي بصفته المصدر التَّشريعي الأول ، كما يوجد أيضا في لوائح وقوانين حُقوق الإنسان والإتفاقيات الدولية وقبل كل هذا و ذاك .. هو موجود و بوضوح في صحيفة المدينة ، أو دستور الجمهورية الأولى ، دولة محمد عليه الصلاة و السلام .. وهذا ما أؤكد عليه هنا و أشارك الرأي مع المسلمين الليبراليين والحداثيين والتقدميين و النهضويين و التنويريين ، سَمِّهِم كَما شئت و ضَعهُم تحت أي عنوان أرَدتَ ، بينما في رأيي أننا جميعاً ، المسلمون الطَّامحون إلى إعادة بناء الدولة المصفطوية ، الجمهورية السادسة ، التي تؤمن بأن الحكم العِلماني ضروري مع دور الإيمان في المجتمع المدني .على عكس ما ذَهب إليه بعض الكتاب الغربيين مثل برنارد لويس الذي جادَل بأن "العرب-المسلمين لا يَتَّفقون مع الدِيمقراطية لأن المفاهيم المرتبطة بالديمقراطية مثل فصل الدين عن الدولة - العلمانية- والحكومة التمثيلية والحرية غير معروفة لديهم ، ومرفوضة في الإسلام والتقاليد السياسية العربية.
إن الدولة في الإسلام بطبيعتها علمانية ؛ لأنها تهتم بأمور الدنيا والحياة الـحــاضــــرة ، وهذا ما حض عليه الإسلام ، فعلاً ، أن تترك أمور الدنيا لأصحابها ، وليس أدل على هذا ما فعله النبي عليه الصلاة و السلام ، يريد أن يُعلِّمنا و يُعلم الأّمة بل الإنسانية إلى يوم القيامة هذه الحقيقة ، أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام مر بقوم يلقحون النخل فقال : لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا " تمرا رديئا" فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا.. قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. كما ذكره ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه وغيرهم بروايات مختلفة. ( القوم إعتقدوا أن كلام و راي رسول الله لا راد له ، و أنه وحي يوحى حتى في أمور الدنيا ، و قد كان غير صائب ، و أدى إلى تلف التمر ... ولهذا عاد إليهم بعد حين ، يعلمهم و يعلمنا بهم ...هذه الرواية التي بوب لها النووي في شرحه على صحيح مسلم فقال نصاً: ( باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سيبل الرأي. فذلك هو المقصد الشرعي وهو عام في سائر الأمور الدنيوية، فيمكن لكل فرد أن يجتهد في أموره الدنيوية الخاصة بما يناسبه وينفعه، فله أن يبني داره -مثلا- إلى أي جهة تناسبه، ويزرع مزرعته بما يفيده. فلا دخل للشارع في ذلك؛ اللهم إلا من ناحية تقنينه للمسائل، مثل تحريمه للإسراف أو التقتير أو الإضرار بالغير ونحو ذلك من الأمور العامة التي تجري في كل المَسائِل تقريبا. وللاستزادة يرجى مراجعة الفتوى رقم: 57742 للإمام النووي ) إذن ، فالدَّولة تستلهم قوانينها و تشريعاتها الدنيوية من إجماع الشعب الأدرى بمصالحه و أمور دنياه ، و ترتكز على دستور توافقي ، كما فعل رسول الله ، يخدم مَصالح الجَميع دُون أي تمييز . و من يَعرف تاريخ الرسَالة ، و يُتابع تطور جمهورية النبي ، يرى كيف كان محمد الرئيس القائد ، يفصل بين كونه رئيسا قائداً ، و بين حقيقة كونه نبياً و رسولاً ،وقد ورد في الأثر و الروايات في غير موضع كيف تراجع عن رأي له ، و قَبِل و مَشي وَراء رَأي لآخر ، فَرأيُهُ كرئيس حَاكم هو رأي يكَوِّنه بالتفكير و الإسْتِشاره ، و هو ليس بِوحيٍّ من الله واجب النّفاذ و الطَّاعة !! على سبيل المثال رسول الله عليه الصلاة و السلام عندما كان يتصرف أو يقول قولاً كان الصحابة يسألونه سؤالا تقليديا تجده منتشرا في كتب السِّيرة النَبَوية (( يا رسول الله أَهُوَ الوَحيّ أّمِ الرّأي والمَشُورة ؟ )) كما حدث في مَعركَة بدر عندما نَزلَ مَنْزِل ( مكان أو موقع معين) سَألهُ الخَبّاب بن المُنذر : أهذا مَنزِلٌ أنزَلَكَهُ الله أم هُو الرَّأيُ وَالحَربُ والمَشُورة وَالمَكِيْدَة؟ فأجَابَهُ الرَّسُول عَليهِ الصَّلاةُ و السَّلام (الرئيس القائد هنا) : هُوَ الرَّأيُ وَالحَرب، فقالَ الخَبابُ بن المُنِذر : هذا ليسَ لكَ بِمنزِل )) و مثل آخر ، عندما نزلَ وتراجع عن رأيهِ " عليه الصلاة و السلام " لصالح راي غَيره من النَّاس في موقعة الأحزاب أوالخندق حيث أراد النبيُّ أن يَكسِر حصار المشركين من حول المدينة "فتفاوض" مع مُمثلي غَطفان ونَجد على ثُلثِ ثمار المَدينة في نظير فتح ثَغرة في هذا الحِصار، لكنه قبل أن يوقَّع على المُعاهدة سَأَل صَحابته و مُستشاريه ، فسألُوه قبل أن يُبدوا الرأي : أهذا وحيٌ أم هذا رأي رأيتَه لنَا ؟ قال عليه الصلاة و السلام هذا رأيٌ رأيتُه لكُم، فقَالوا : إنّهم مشركين لم يكونوا يتذوقون ثِمار المَدينة إلا بِقَرى الضيف أو بالتجارة، كيف نُعطيهم ثُلثَ ثِمار المَدينة بَعد أن أعَزَّنا الله بالإسلام ؟ فما كان من النبيّ ( الرئِيس الحَاكم هنا ) إلا أن مزَّق مشروع المعاهدة لأنه هنا يجتهدُ كبَشر ، كَرئيس يحتاج إلى المشورة ، بالطبع ، هذه حكمة و مثلاً أراد الله تعالى أن يُعلمنا به ، بأنه كان يستطيع أن يوحي له ، و يُلهِمه التَّصرف ، ولكنه ترك محمداَ الإنسان يتصرف ، ليكون مثالاً يحتذي لمن يأتي بعده من البشر على رأس هذه الأمه بأن قدوتهم و زعيمهم و نبيهم ، كان يدير سياسة الدولة بالشورى و الديمقراطية و ليس بإستبداد الملوك و ليس بسلطان النبوة و الوحي و وبفصل الدين عن الدولة . أليس هذا هو المفصود بالعلمانية ؟ وهل يمكن تأسيس المُواطنة على أسس غير عقدية ، و ميثاق أو عقد إجتماعي يحدد الواجبات و الحقوق ..فما العيب في هذا الفكر ، و اين يخالف أي معتقد ديني ؟
وعليه فتحرر الدين من قبضة السياسة يعتبر الخطوة الأولى لنصرة الدين ، و عودة الوعي و عودة الحرية و الإحساس بالآدمية .


