يبدو أن حمى الانتخابات أصابت القيادة الفلسطينية بحالة من التخبط بحيث أصبحت تتضارب تصريحات قيادة الفصائل الفلسطينية. فهناك من يحذر ومن ينفي ومن يدعو إلى التحالف وهناك من يرحب بالفوضى العارمة التي تسببها التصريحات، ولكن بين هذا وذاك تبقى ملامح الاستقطاب الشديد والتجييش الاعلامي هي سيدة الموقف لتذكر الجمهور أنه أمام فصائله وقيادتها التاريخية الهرمة التي تعرف المصلحة المبتغاة من الجمهور أكثر من الجمهور نفسه. وعلى تلك الجماهير المنقسمة بين ولاءاتها أن تصفق لتلك القيادة وتمنحها أصواتها في صناديق الاقتراع .
إن حالة الفوضى الفلسطينية ليست وليدة اللحظة، حيث شهدنا منذ زمن الانتداب البريطاني نزاعًا عائليًا على السيادة بين آل الحسيني وآال النشاشيبي، وكانت كلتا العائلتين تتبنى رؤية وطنية ولكن لم يكن هناك من مجال لتوحيد رؤيتيهما والخروج ببرنامج وطني موحد.
.
انطلقت الثورة الفلسطينية في منتصف الستينات وتحول الفلسطينيون من لاجئين إلى مقاتلين وتوحدت جميع الفصائل تحت برنامج منظمة التحرير باعتبارها حاضنة الكل الفلسطيني، إلا أن ذلك كله لم يمنع تلك الفصائل من العمل حسب رؤية واستراتيجية وبرنامج خاص بكل منها رغم كون الغاية واحدة: تحرير فلسطين.
أثبت الفلسطينيون أن عشقهم للفوضى كما عشقهم للثورة، وتسبب اختلاف الرؤية والمنهجية في العمل الثوري في ارتكاب أخطاء فادحة دفعت ثمنها الثورة في مراحل عمرها أو في أماكن تواجدها حتى وصولها للمنفى في تونس حيث بدأت الثورة مرحلة جديدة من العمل الثوري الذي انطلق من الأرض المحتلة وصاحبه بزوغ نجم الحركات الإسلامية التي كانت أيضا متنافسة فيما بينها.
اندلعت الانتفاضة الأولى في العام 1987 وكانت عفوية وجماهيرية إلا أن الفصائل انضمت إليها لتفرض نوعًا من الوصاية على الجماهير التي صفقت لتلك الفصائل المتناحرة وبررت تناحرها.
ثم جاءت السلطة الفلسطينية وجميعنا شاهد كوكتيل الخلافات الفلسطينية وكيف انقسمت فصائل منظمة التحرير بين مؤيد ومعارض لاتفاقية أوسلو رغم تولي جميع عناصر هذه الفصائل لوظائف في مؤسسات السلطة, وشنت الحركات الإسلامية هجومًا على الاتفاقية. وفي هذا الوقت، شاهدنا الجماهير التي لا تعرف سوى التصفيق غاضبة في المساجد تهتف ضد أوسلو، ثم خرجت هذه الجماهير نفسها لتحتضن قائدها ورمزها وملهمها ياسر عرفات عندما عاد إلى أرض الوطن.
لو قرأنا هذا التاريخ المتسارع الأحداث جيدًا لوجدنا أن اللاعبين لم يتغيروا، فالفصائل ما زالت نفسها والاخطاء تتكرر: تريد فتح أن تضرب نموذجًا ديمقراطيًا للعالم بعملها في مؤسسات السلطة ولكنها في الوقت نفسه تتعامل في أروقتها التنظيمية بدكتاتورية مع أبنائها, واليسار ما زال يتغنى بمبادئ الاشتراكية و البروليتاريا من داخل قاعات الفنادق الفخمة, أما حماس فتريد أن تلعب جميع الأدوار في آن معاً - الضحية والجلاد, المقاومة والمهادنة, الحكومة والمعارضة.
تسارعت الأحداث إلى أن وصلنا إلى ما نعيشه اليوم من حالة شيزوفرينيا جغرافية وسياسية وديموغرافية واجتماعية. إننا نعيش الشيزوفرينيا في جميع مناحي حياة المجتمع الفلسطيني في الداخل والخارج. وللأسف أدى تفشي هذه الحالة إلى خلق ثقافة جديدة بين الجماهير الفلسطينية، ثقافة قائمة على اللامبالاة والهروب من الواقع.
فقدت الجماهير ثقتها بالفصائل و لكنها ما تزال منحازة إليها, ولم تعد الجماهير تؤمن بشعارات الفصائل ولكنها ستصوت لها في صناديق الاقتراع, وتريد الجماهير أيضا معاقبة الفصائل والانتقام منها فتقوم بالتصويت لأحدها على حساب الآخر .
فقط الجماهير هي من سينقذنا مما نعيشه اليوم من حالة شيزوفرينيا فلسطينية. فالجماهير هي الداء وهي نفسها الدواء, هي المعضلة وهي الحل. إن ما تحتاجه الجماهير هو استعادة ثقتها بنفسها والكفر بكل أدبياتها الحزبية وتحطيم جميع الأصنام التي تعشش في رأسها والبحث عن نموذج جديد يوحد فكرها ورؤيتها ويقودها إلى الأمل، إلى الدولة والتحرير.


