فشل انقلاب فصيل من الجيش التركي ليلة 25 من يوليو الجاري في استلائه على السلطة يعني في التعبير الأخير الانتصار النهائي للديموقراطية عندما تعني السيادة للشعب. حقيقة لا يمكن أن يماري فيه أحد، الا في بعض الجيوش العربية التي لا زالت تعاني حالة العالم الثالث المتسم بالسلطوية و الانقلابات و حالة الطوارئ و الأحكام العرفية …من الآن و صاعدا لا يجرؤ العساكر في تركيا على أية محاولة للانقلاب لوجود مؤسسة الديموقراطية التي تأبى اية مصادرة عندما يعتنقها الشعب الى حد الوعي الكامل. فقد سارع هذا الأخير الى الإنبراء لمحاولة الفصيل العسكري الإسيلاء على الحكم بالقوة في الليلة ذاتها، و لم يكد يبزغ الفجر حتى كانت كل الأوضاع حسمت لصالح إرادته. إن نزول الشعب التركي الى الميادين، المجال الفعلي للديموقراطية و الإرادة السيادية، أسس لمرحلة ما بعد عصر الانقلابات و تعطيل الحياة السياسية و المدنية و تدخل العسكر.
أكد فشلالانقلاب على أن تركيا بلد ديموقراطي وأن السلطة تنطوي على نواة حيوية هي الشعب، وأن البرلمان الحقيقي هي ساحات وميادين المدن كأعلى مراجع سياسية وآخر هيئات لحسم الخلاف السياسي أو تقرير مصير الدولة والمجتمع. فقد أوقف الشعب، أو الجماهير الواعية على حد تعبير طوني نيقيري، غواية العساكر الى الحكم و البقاء فيه، و الذي مَهَرَ و خَتَم على خروج الجيش من دائرة الحكم هو مسارعة المعارضة بكافة أطيافها و توجهاتها الى نبذ الانقلاب كفعل منافي للحياة السياسية التي وصلت إليها تركيا. الاستلاء على السلطة بغير الطريق الديموقراطي عمل مرذول و مذموم، و يجب الابتعاد على هذا الشكل في الوصول الى الحكم لأنه يُعْزى الى عصر” العالم الثالث” الذي سادت فيه الانقلابات كمرض لازم البلدان التي خرجت توّا من الإستعمار.
ما يضاف الى الرصيد الهائل و الرائع للرئيس أوردغان، بعد فشل الانقلاب، هو إخراج تركيا من دائرة الانقلابات و مساراتها المربكة لحياة الشعوب و الأمم الى واحة البلدان الديموقراطية الأمنة و المستقرة التي لها القدرة على علاج قضاياها و حلّها بالسبل السلمية الهادئة مهما كانت معقدة و خطيرة. فقد كشف فشل الانقلاب أن تركيا دولة قائمة على السلطة الحاكمة و سلطة المعارضة أيضا التي بادرت الى رفض الانقلاب منذ الإعلان عنه، ايمانا منها بأن مجال المعارضة هو ساحة لإمكان الحكم لاحقا، و أن أي اغتصاب للسلطة هو مصادرة لإمكانية وصول المعارضة الى الحكم في استحقاقات قادمة. هكذا، فالدولة التركية بما هي سلطة للموالاة و سلطة للمعارضة صارت تشكل، بعد تجربة فشل الانقلاب، كيانا واحدا يستعصي عن الاختراق و الانقلاب و الاضمحلال. فعدما تنخرط كافة التشكلات السياسية المشكلة لوعي الجماهير كبنيان مرصوص، تتصدى لمحاولات الانقلاب، تعززها الأرضية المكينة التي صارت تقف عليها و التي صارت تتسع للجميع.
وحتى نرسم الصورة التي آلت اليها تركيا و هو بلد مسلم له تاريخ طويل و عريض مع البلدان العربية، نتحدث على الحالة العربية وما كشفه الربيع العربي فيها.فقد سعى الجيش في البلدان العربية الى الاستلاء على السلطة و الاحتفاظ بها. كان الجيشولا يزال الركن الركين الذي تأسست عليه الدولة العربية الحديثة، ومن هذه اللحظة استمد أهميته ودوره المصيري في حياة الشعوب العربية ومكانته في المنطقة والعالم. و اذا كان الغالب أن الجيوش العربية قد خسرت حروبها مع اسرائيل و أنها بلا مكانة حقيقية على صعيد منطقة الشرق الأوسط أو البحر المتوسط، فإنها زادت على ذلك و اخترقت مجالها كمؤسسة عسكرية و دخلت التجارة و المال و الأعمال، توظف نفوذها الأمني المدني منه و المسلح للاحتفاظ بسلطة الدولة كأفضل سبيل الى مراكمة الثروة و استغلالها، و قد تمادت في ذلك الى حد فرض حالة الطوارئ و اللجوء الى الانقلابات و مصادرة الحق في الاختيار و اعدام الحريات العامة.
ان انخراط الجيش في الحياة السياسية و الاقتصادية العربية اعاق تحرير المجالات و ساعد على مصادرة الحريات و الحقوق. فقد وقف على طرف مناقض تماما لما ينبغي أن تقوم به المؤسسة العسكرية في الدولة المدنية الحديثة بعد مرحلة التحرر و الاستقلال عن الإستعمار. و لعلّ الانقلاب السافر للجيش المصري، في 3 يوليو2013، على مؤسسات الدولة المنتخبة لأول مرة في تاريخ مصر بشكل ديموقراطي، فيه ما يفسر قوة الجيش المعطلة للحياة العامة و المكبلة لسيرورة التحوّل نحو الديموقراطية و الحرية. ان انقلاب الجيش المصري افصحَ بشكل لم يبق ظل من ريب أنه أول و أهم مؤسسة في الدولة و أنه صانع النظام الأوتوقراطي و السلطوي و الحريص عليه بالقدر الذي علّق عليه مصيره، على ما نلحظ في يوميات العنف و الإرهاب و الدمار و التخريب التي تطال حياة المصريين و مؤسسات الدولة ذاتها.
الحقيقة، أن انقلاب الجيش المصري الأخير، جاء في غير سياقة و مفارق لمنطق العصر و مقتضيات الحياة السياسية الدولية التي صارت تأبى قطعا الانقلابات، كما كانت تأبى الإستعمار و قبله النظام العبودي و الإقطاعي.
ان التحليل السياسي لظاهرة الجيش في الحياة العربية الراهنة تؤشر دائما على أنه صانع الدولة العميقة و ليس الدولة المدنية المعقولة التي يسهل كشف اختلالاتها و أزماتها بالعودة الى المؤسسات الشرعية و الهيئات المختصة. لا بل الجيش احتفظ لنفسه بالسلطة و التمسها لذاته من أجل أمنه و استقراره و ثروته في المقام الأول، ثم تأتي مهمته الأخرى لحماية الشعب و استقرار مؤسسات الدولة و الحفاظ عليها في المقام التالي، اي كتحصيل حاصل عن مهمته الأولى الاحتفاظ بالسلطة و التماهي مع النظام و احتكار السلاح. و عليه، فقد كان للجيوش العربية دورا معطلا لنظرية فصل المجالات و استقلال السلطات، ويكون، من ثم فوّت فرصة تحقيق العلمانية بمعناها الذي يشير الى فصل السياسي عن العسكري، بالقدر الذي يفصل الديني عن السياسي و القضائي عن السياسي الى حد وجود كافة السلطات و المجالات في حياة الدولة و المجتمع، تحتل مواقعها و تسير وفق المنطق المعقول الذي يدرج الجميع في سيرورة التحرير و الاستقلال و تكامل الوظائف، على ما شهدته الدول المتقدمة، و لعّل تجربة تركيا على عهد حزب العدالة التنمية خير دليل على ذلك.
تاريخ مؤسسة الجيوش العربية تاريخ سلبي لأنها استحوذت على الحياة العامة ولم تترك المعارضة تصل الى الحكم، وأحكمت بدلا من ذلك سياسة احتمال دائم للتدخل في السياسة واللجوء الى الفعل الاستثنائي في شكل انقلاب، أحكام عرفية، فرض حالة طوارئ… ولعلّ الانقلاب الأخير للجيش المصري على بداية الحياة الديموقراطية ما يوفر الدليل القاطع على الدور السلبي للجيش والمفارق لما ينبغي أن تكون عليه المؤسسة العسكرية في التاريخ المعاصر. فقد جاء الانقلاب العسكري كتطوّر صَلِف و مُرْبِك لكل معطيات الواقع السياسي المعاصر و لمنطق السياسة الدولية في آخر تطوّراتها التي تأبى بشكل قاطع الانقلابات، مثل ما رفضت الإستعمار بالأمس و قبله نظم العبودية و الإقطاعية و القبلية و العشائرية و الدكتاتوريات على اختلاف صورها. و في التحليل الأخير، يظهر انقلاب الجيش على الحياة العامة، في سياق تحوّل كبير للمجتمع المصري نحو الديموقراطية، كخَطْف لبلد و احتلال له و شلّه عن مسايرة السياسة بمعناها النبيل للوصول الى الدولة المعقولة التي تحكمها العقلانية.
ان تمادي الانقلابين في الحكم، في عصر يأبى الأحكام العرفية و حالات الطوارئ هو الذي أفضى الى الثورات القائمة اليوم في غير بلد عربي، ترشحه الى التفتت و التقسيم على ما حصل في السودان، و ما يحدث في اليمن، العراق، سورية و ليبيا، مقدمات للانشطار و النسف و التشرذم الطائفي العنيف. وفي الأخيرولعله في البدء، إن فشل الانقلاب في تركيا يبعد شبح الانقلابات وحالة الطوارئوالأحكام العرفية و القوانين الاستثنائية و تعطيل الدستور في حين أن” نجاح” الانقلاب المصري يستدعي انقلابا آخرا يجب أن لا يغادر أفق مصر و مستقبلها القريب جدّا.
كاتب و باحث – الجزائر


