استيقظت باكرا هذا الصباح، لم أنم سوى أربع ساعات بسبب الحرارة المفرطة التي تعرفها المدينة مند أسبوع ، بسببها، العديد من الظرفاء أوقفوا صيام الستة أيام من شوال إلى أجل آخر، سيارات الأجرة بلونها الأزرق تتسابق في الشارع الرئيسي لعلها تفوز بغنيمة لسداد المستحقات للمالكين الحقيقيين خصوصا مع الارتفاع المفاجئ للبنزين، على مقربة من منزلي يجلس رجل سبعيني، كثير الكلام لاتفارقه الابتسامة، يبيع الصبار الهندي من منطقة تسمى ” الجبيل ” وهي منطقة من أفقر الجماعات بالإقليم ومشهورة بأخطر الأنواع العقارب في العالم )اعذروني المعلومة نقلتها من روبورطاج عن العقارب بالمنطقة سبق إيداعه بالقناة الأولى، هل الروبورطاج مهني أو لا ، الله اعلم ). ومن غرائب الصدف أن جل الرؤساء الذين تعاقبوا على تسييرهذه الجماعة لم يفكر أحد منهم أن يستقر بترابها . وبصراحة كنت دائما أطرح نفس السؤال ما الذي يجعلهم يتقاتلون للفوز برئاسة المجلس وبعد ذلك يفرون إلى مدن أخرى ومن تم تسيير الجماعة بالهاتف أو عن طريق أحد النواب الذي يكون مشتاقا إلى لعب دور الرئيس ولو بالكذب. والحقيقة حتى لانظلم هذه الجماعة بمفردها، فالعديد من الجماعات تعيش نفس الوضعية ، وهذه صورة من الصور الشاذة والتي تشكل أحد الأعطاب الكبرى للسياسة والتمنية الترابية بالمغرب.
لايهمنا هذا الأمر فوزارة الداخلية هي أعلم بذلك وهي من صنعت هؤلاء الأصنام وهي تعرف جيدا الوقت المناسب لتدميرهم عندما ترغب في ذلك .
كانت خمس دقائق كافية، للوصول إلى محل بائع الخبز، رجل مقطب الوجه عريض الجسم، يضحك كثيرا، امتهن هذه الحرفة مؤخرا بعد أن تخلى عن سمسرة المنازل بعد أن عرف العقار في الآونة الأخيرة أزمة خانقة. كان يقول لي بمرارة واستهزاء في كل مرة يراني فيها، لقد تحول الجميع في هذه المدينة المشؤومة إلى سماسرة لم نعد نفرق بين الموظف والتاجر والفلاح والصحافي الكل ولج إلى هذه الحرفة لأنها يتيمة الأب وإلام وأصبحنا نحن أصحاب الحرفة الحقيقية مجرد متسكعين ومتسولين، فتركناها عن مضض راكبين سفينة مجهولة بحثا عن لقمة العيش في حرفٍ لا نعرف منها إلى الإسم لعلنا نحفظ معها ولو قليلا ماء الوجه.
بطريقته المعهودة استقبلني وهو يبتسم، لكن يبدوا عليه نوعا من المرح والنشاط والحركة خصوصا أنه كان ثقيل الوزن، ففاجأني بسؤال سريع قائلا: لقد فعلها الشعب التركي ياأستاذ وأوقف زحف العسكر الغادر؟ وأضاف: ياله من شعب عظيم …. وبنوع من المكر والاستغفال أجبته عن ماذا تتحدث ؟ فأجابني ولم ينتظرني أن أُكمل الحديث …ألا تعرف …لقد فشل الانقلاب والشعب هو من أفشله وهو حامل للعلم التركي وصدره مفتوح للنار …وقال وبنوع من الاعتزاز وهو يحلف : والله لقد حقق الشعب التركي المعجزة نعم المعجزة…..
فأجبته وبنوع من اللامبالاة قائلا : ياصديقي أريد خبز الشعير للفطور مالي وتركيا وشعبها ومشاكلها التي لن تزيد أو تنقص شيئا في هذا الصباح ، ومن أجل استفزازه أكثر قلت له : ما لك أنت والانقلاب، عليك أن تهتم بخبزك وزبائنك قبل كل شئ وأردفت قائلا ياصديقي إنها مجرد مسرحية قام بها أردوغان وحلفائه من أجل أن يقضي على حركة ” الخدمة ” ورئيسها فتح الله كولن وجيشها الذي يخترق كل الثكنات. ودون أن يتركني أن أتمِمَ رأيت وجهه العريض يميل إلى الإحمرار وقد استشاط غيضا وبصوت مرتفع رد علي قائلا : عن أي خبز وعن أي حركة تتحدث وقال وبنوع من الثقة : انأ على يقين أنك تهلوس في هذا الصباح ومن يدري فقد مسك مس ما ولم تعد تميز شيئا ياصديقي.
فرمى بأكثر من فطيرة كانت بين يديه وقال لي وهو كمن يرافع بالمحكمة ،قائلا : اسمع ياصديقي مني الكلام الصحيح، لقد بِتُ الليل كله متتبعا كل القنوات وشاهدت كل الفيديوهات في اليوتوب وتبين لي بوضوح تام أن العسكر متورط في الانقلاب ويريد أن يصنع خريطة للبلاد بالشكل الذي يخدم مصالحه ومصالح حلفائه. وصدقني أنا الآن تأكدت بما لايدع مجالا للشك أن العسكر هو من كان يدخل السلاح إلى داعش وهو من يقوم بالوساطة بينه وبين هذا التنظيم القاتل والصهاينة وأمريكا والدول التي لها مصلحة في المنطقة. إن الجيش هو رأس كل المصائب والكوارث التي يعيشها العرب والمسلمين في المنطقة وزاد وهو في حالة جد مؤثرة قائلا : اسمع ياصديقي ، أنا لا يمكن أن اعرف مثلك ولكن كل ما اعرفه هو أن امريكا والصهاينة والغرب يريدون رأس أردغان لأنه الوحيد الذي صنع الديمقراطية للشعب وقبـل يد الشعب، أما الحكام العرب و فكلهم صنعوا مجدهم بقهر شعوبهم وكلهم لا محالة سيرمون في مزبلة التاريخ.
سلمني خبزتين من الشعير، فعدت أدراجي إلى البيت وأنا فاقد للوعي وكأنني قد أصبت بعبوة ناسفة، وفي كل مرة أريد أن اصدق ماقال لا أستطيع، وفي كل مرة أتوقف عن المشي وأسأل نفسي، هل فعلا من كنت أحدثه الآن هو بائع الخبز ؟ هل يمكن لشخص لم تطأ قدماه يوما أبواب المدرسة، يمطر مايمطر من التحاليل والنبوءات ؟ ولماذا هذا الاهتمام والحب المبالغ فيه لبلد وزعيم وقضايا بعيدة كل البعد عن قضيته ؟
وأنا أبحث عن أجوبة لهذه الأسئلة المقلقة، فإذا بي أفاجأُ بمجموعة من الرجال على جانب الطريق يسبون ويلعنون أحد الفارين ولما سألت عن السبب قال لي أحد من المتجمهرين، إن لصا قد سرق الدراجة الهوائية لهذا الشيخ الجالس في ذلك لركن وقد استغل السارق فرصة الرجل منهمكا بالحديث عن الإنقلاب بتركيا وزاد الرجل متهكما ومتشفيا : كان الأجدر به أن يهتم بصندوقه الصغير من الصبار والذي يعد مصدر رزقه، فليسأل الآن السيد أردوغان ليؤدي له ثمن الدراجة الهوائية .وختم بنبرة حارقة ، الناس معتوهين في هذه البلاد، يبحثون عن الخلاص من الخارج ويتلذذون طعم الانتصار من خلال الآخرين… الآخرون الذين لايشبهوننا في شئ.
وانأ اقترب من المنزل شعرت بإحساس مزيج من الغبطة والضيق مما حدث، في الحالة الأولى إحساس بأن العالم فعلا يتغير وأن الجيل القادم لامحالة سيقول كلمته الأخيرة في مواجهة الحاكم المستبد و تحقيق الديمقراطية كما أرخ لها الشعب التركي والإحساس الثاني أن يكون ماوقع في تركيا مجرد سيناريو مفبرك لطلقات في الهواء في ذلك الصباح الجميل . على كل حال وأنا اقلب الخبزتين الحارقتين بين يدي، لم يبق لي ولكم سوى التسليم بما قاله الكاتب الإرلندي الكبير والمثير للجدل جورج برناد شوعنما قال : ” عندما يكون الشيئ مثيرا للضحك فابحث جيدا لتصل إلى الحقيقة الكامنة وراءه “.
كاتب صحافي من المغرب


