في تلك الساعات الأولى من غسق الليل «ومن شر غاسق اذا وقب» أي في تلك اللحظات الضبابية وحيث لما يتضح بعد هذه العملية المباغتة من الانقلاب في تركيا على الحكومة المنتخبة والشرعية بزعامة رجب طيب اردوغان، فقد كانت هذه هي التلاثين ثانية الأولى من جلاء وتكشف الحقيقة في أوضح تجلياتها، حينما تكشف في مثل هذه اللحظات من عدم اليقين الاحداث عن سترها، وتظهر موقف جميع الأطراف على المسرح السياسي العالمي على حقيقتها المجردة، دونما أي طلاء او دهان يخفي حقيقتها.
ان الدبلوماسية وباقي جميع تلك الاعتبارات او قواعد العلاقات بين الدول، انما تختفي دفعة واحدة ليحل في لحظة نادرة مكان هذا النفاق السياسي والدبلوماسي، الانفعال المجرد وكذا العواطف المجردة من أي حسابات سوى المصالح المادية التي يجري التعبير عنها في الوقت نفسه، بكل هذا الإرث القديم من الاهواء والمشاعر المتناقضة، والتي تتوزع بين الحب والكراهية لبعض الشخصيات في التاريخ. وابانت طوال الوقت عن أولوية وتفوق المصالح والاهواء السياسية على الاخلاق.
ها نحن لا زلنا تحت تأثير هذه الصدمة والانفعال في تلك الساعات الطويلة الأولى من ليلة الخامس عشر من تموز، في ذروة اللحظات الافتتاحية الأولى من الانقلاب، وكان الصمت والذهول الذي يحبس الانفاس حول جميع ارجاء العالم يحدد في الوقت نفسه على اللوحة توزيع هذه المواقف، المواقف الافتراضية من نجاح او فشل هذه العملية.
كنت شخصيا ارسم لنفسي هذه اللوحة واكتب بالطبشور التصنيف الافتراضي الموزع على خانتين او جدولين، ويضم الجدول الأول الأطراف الخاسرة من نجاح العملية، والثاني تلك الأطراف الرابحة. ولكن حتى هذا التصنيف كان يتجاوز هذا التوزيع تحت مصطلح الربح والخسارة، ولكنه كان مشوبا على نحو عاطفي او شعوري اكثر.
من كانوا حزينين على رحيل هذا الرجل الزعيم الطيب اردوغان، ومن سيكونون فرحين او شامتين بالقضاء عليه او العكس؟ ان في جميع فصول وقصص التاريخ المشابهة التي تحفل بها الدراما التاريخية، كان هؤلاء الأشخاص الابطال هم محور هذه الدراما، وفي صلب هذه المشاعر والعواطف المتناقضة. الى نابليون ومن يوليوس قيصر وفردريك الكبير بارباروسا الى جمال عبد الناصر وياسر عرفات وصولا اليوم الى مصير رجب طيب اردوغان، في هذه الذروة العاطفية المأساوية ليلة الخامس عشر من تموز.
عالم برمته يقف على قدم واحدة منقسما حول مصيره. وكانت هذه الليلة بحق ذروة معاركه وصراعه، رأى اليها البعض معركة «واترلو» خاصته، معركة واترلو التي هزم فيها نابليون وتحولت منذ ذلك التاريخ في العام 1815 لأن تصبح رمزا لهذه المعارك الأخيرة، التي يمنى بها الابطال بالهزيمة بعد مرحلة من الصعود.
وعددت على أصابع يدي أسماء المجموعة الأولى التي سأطلق عليها الاّن وصف القائمة السوداء، وذلك على النحو التالي: الولايات المتحدة التي اشتممت رائحة وقوفها وراء هذا الانقلاب منذ الدقيقة الأولى، ولقد رأيت هنا ان الامر يتعلق بالتخلص من اردوغان بعد انتفتاحه على روسيا ومصالحته معها، وان الهدف النهائي هو تقسيم تركيا وقطع الطريق على محاولة اردوغان، ربما التحالف مستقبلا مع روسيا وإقامة توازن قوى جديد في المنطقة بعد ان بات واضحا ان مقاربة كلا الحليفين أميركا وتركيا تجاه الازمة السورية على طرفي نقيض. وهو ما يفسر ان الانقلاب للتخلص من اردوغان جاء بعد تقاربه مع روسيا. وهو ما بدا لاميركا تجاوزا للخط الأحمر.
ورأيت هنا بالمثل ان الاتحاد الأوروبي الذي يواجه رجلا صعب المراس في تركيا نصف الأوروبية ونصف الاسيوية والإسلامية، لن يذرف دمعة واحدة لرحيله او سقوطه حتى بانقلاب عسكري يخالف مبادئ الديمقراطية. وكذا إسرائيل التي وقعت معه اتفاقا مؤخرا على مضض لن تأسف على رحيله. ان ما ميز مواقف هذه الأطراف الثلاثة وفضح عورات مواقفها او نياتها المستترة، انما كان صمتها المريب في تلك الساعات الضبابية وعدم المسارعة الى التنديد بالانقلاب انسجاما مع ادعائها القيمي حول الديمقراطية.
لكن من لم ينتظروا ولم يستطيعوا كبت او إخفاء مشاعرهم وسيكونون الاوضح في الرؤيا ممن يفرحون او يشمتون لسقوط الرجل، فهم الرئيس السوري بشار الأسد وكذا ايران وحزب الله، ولكن الى جانبهم وربما يسبقهم بخطوات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ودولة الامارات العربية. ومعروف سلفا دوافع هذه الأطراف الأخيرة في كراهية الرجل.
في القائمة المقابلة وفي هذا الليل الغزي والكئيب سأرى شخصيا الفلسطينيين والغزيين على وجه التحديد وحماس على وجه الخصوص، وسوف أرى الى جانبهم الحليف الأبرز لاردوغان قطر، وارى الملك سلمان بن عبد العزيز والسعودية، وارى المعارضة السورية. ولكني سوف أرى قبل هؤلاء وبعدهم ولا تدهشوا من ذلك الرئيس الروسي بوتين، وارى كذلك سنة لبنان وسورية والعراق بالمجمل. وكما لو ان معسكرا مقابل معسكر طبقة ضد طبقة فلمن يعلن الصباح شارة الفوز والانتصار؟.
عند الساعة الخامسة فجرا كان ذلك اشبه بالمعجزة، لقد انتصرنا. خرج البطل والزعيم في مطار اتاتورك يعلن انتصاره واندحار الانقلاب، لقد هزم الانقلابيون وانتصر الشعب وقائده ولحق الخزي والعار باعدائه، بعد ان اقاموا له الجنازة ودفنوه مبكرا في وسائل اعلامهم وترددهم الصامت المنتظر اعلان موته او اعتقاله.
لكنهم هم الذين خسئوا في ذلك الصباح ونجت تركيا بفضل القوة والإرادة التي اظهرها شعبها، وقبل ذلك احزابها السياسية خصوم اردوغان واعلامها، ونخبها الثقافية الذين علموا العالم درسا نادرا في ساعة الحقيقة والمحنة الشدة التي هي محك الحقيقة لجدارة أي شعب كيف يمكن التوحد والتلاحم على قلب رجل، ووضع الخلافات جانبا في مواجهة الشر الأعظم دفاعا عن الدولة والديمقراطية. وكان في ذلك إعادة الاعتبار في السياسة الدولية لمبدأ أولوية الاخلاق وتفوقها على السياسة، خلافا لقاعدة ومذهب ميكيافيلي والكاردينال الفرنسي الشهير ريشيلو.
لكن ظنا واحدا لي خاب يوم الخميس حينما بدا لي ان القرار المنتظر ان تقدم عليه تركيا الاّن لوضع حد نهائي لهذه الانقلابات، انما اعلان تركيا خروجها من حلف الناتو. لكن ظني لم يحدث. ولقد رأيت هنا ما بدأ يراه اّخرون من ان جميع تلك المصائب والانقلابات التي حدثت في تركيا بدءا من الستينيات القرن الماضي، في الانقلاب الأول الذي حدث على حكومة عدنان مندريس واعدامه، انما جاءت بعد انضمام تركيا في خمسينات القرن الماضي الى هذا الحلف الذي اوجد البيئة الفاسدة لافساد وتشجيع مجموعة فاسدة من الجنرالات في الجيش التركي، لا تنفك عن مواصلة الظهور في كل مرة باعتلاء الدبابات والانقضاض على الحياة السياسية في تركيا.


