خبر : الإرهاب المُنتسب للدين: سؤالان صريحان ومواجهة! د. خالد الحروب

الأحد 17 يوليو 2016 08:58 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الإرهاب المُنتسب للدين: سؤالان صريحان ومواجهة! د. خالد الحروب




إرهاب نيس يوجه لطمة أخرى في وجه وعينا الجمعي تُضاف إلى الصفعات اليومية التي يوجهها لنا الإرهاب الطائفي المقيم في العراق وسورية واليمن وغير مكان في بلداننا.
الإرهاب الذي ينسب نفسه للدين يضرب بقسوة ووحشية في كل مكان: من بنغلاديش وباكستان إلى أورلاندو ومروراً بعشرات البلدان والمدن.
دفاعنا المستميت عن أنفسنا أمام أنفسنا أصبح هشاً ومكروراً، وتكرارنا هو أن الذين يقومون بالإرهاب هم «شرذمة» لا تمثلنا لم يعد له تأثير حقيقي.
لماذا لا تقوم «شراذم» الآخرين بما تقوم به «شراذمنا»؟ وما هو التعليم والمناخ والثقافة التي أنتجت «شراذمنا» ودفعها لممارسة إجرام يصعب وصفه، وآخر تمثلاته اقتحام تجمعات لمدنيين بشاحنة ضخمة تهرسهم تحت عجلاتها! كذلك إحالتنا ما يحدث إلى أسباب خارجية وتدخلات عسكرية من قبل الآخرين، وعلى ما فيها من وجاهة وصحة، فقدت أيضاً جزءاً كبيراً من فعاليتها. فنحن لسنا الشعوب الوحيدة التي تتعرض للاضطهاد أو للظلم في العالم أو عبر التاريخ، فلماذا تأتي ردة فعلنا على الظلم بوحشية بالغة تنسي العالم بشاعة الظلم الذي نتعرض له أساساً؟
لماذا لا تكون مقاومتنا لأي ظلم شريفة ونظيفة وتتسم بالفروسية، وليست منحطة وعديمة الأخلاق ولا تنتمي إلا إلى عالم النذالة والجبن؟ قرأت حديثاً تفاصيل عملية عسكرية أشرف عليها القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين، وكان هدفها نسف مبنى جريدة صهيونية كانت رأس حربة في الدعاية للمشروع الصهيوني. الحسيني أجّل تنفيذ العملية من وقت لآخر كي يضمن عدم وجود أي أشخاص عند تفجير المبنى، وتم تفجيره فعلاً خلال الليل حتى لا يسقط ضحايا آدميون. هذه هي مقاومة الفروسية التي تحسب كل حساب لسقوط قتلى قد يكون منهم عمال نظافة لا ناقة ولا جمل لهم بكل القضايا الكبرى. أين ذهبت تلك المقاومة؟ ومن أين جاءت المقاومة التافهة التي تسيطر على ساحاتنا هذه الأيام ولا تستهدف إلا المدنيين، وتمارس جبنا أرنبياً عندما تواجه عدوها وجها لوجه؟
لم يعد أمامنا إلا مواجهة الحقائق والأسئلة البشعة كما هي من دون مواربة ومن دون تسويغ أو تهرب، لأن مثل هذه المواجهة هي التشخيص الذي لا بد منه إن أردنا التخلص من سكين الإرهاب الذي يحز رقاب مجتمعاتنا وثقافتنا وضميرنا الجمعي وصورتنا أمام أنفسنا والعالم. المساحة هنا لا تتيح إلا التأمل في سؤالين من هذه الأسئلة:
أولاً: هل الضغوط الخارجية والتدخلات العسكرية والاحتلالات تسوغ الانحدار إلى الإرهاب بكل صوره؟ يجب أن يكون جوابنا الجمعي عن ذلك هو «لا» كبيرة، لأسباب أخلاقية وأسباب براغماتية أيضاً.
أخلاقياً، يقودنا استخدام نفس أساليب المعتدي حتى لو كان متوحشاً لآخر مدى إلى التورط في مشاركته التوحش وفقدان تفوق ميزان القوى الأخلاقي الذي تتسم به أي قضية عادلة. التفوق الأخلاقي للقضية العادلة هو جوهر قوتها وبقائها والتفاف الناس حولها، سواء أصحابها أنفسهم أو المتضامنين معهم. التورط في التوحش يفتت الإجماع على عدالة القضية ويبعثر المناصرين من حولها، بل يعمل على إحداث الانقسام بين أصحاب القضية ذاتهم.
كلما تمسكت القضية العادلة بالفروسية والنبل في مقاومتها التوحش ازدادت قوة وبهاءً وظلت عدالتها سيفاً مصلتاً على رقبة المعتدي المتوحش. هذا كان درس المقاومات النبيلة من غاندي إلى مانديلا مروراً بعمر المختار وعبد القادر الحسيني.
براغماتياً، حتى لو تم ضرب كل المسألة الأخلاقية عرض الحائط واعتبارها تنظيراً مثالياً لا علاقة لها بالسياسة الواقعية، فإن التجربة التي خضناها في مساحات جغرافية وزمنية عريضة تؤكد فشل التوحش والإرهاب وحتى المقاومة التي لم تلتزم بالحفاظ على تفوق الميزان الأخلاقي في تحقيق أي مُنجز على الأرض. هوس بن لادن والظواهري في تفجير البرجين في نيويورك لم يهزم أميركا، بل قدم لها أفغانستان والعراق تعويضاً على ذلك. في العراق أنجزت «مقاومة» الزرقاوي وقاعدته للاحتلال الأميركي عبر الإرهاب وتبنى استراتيجية «استهداف الشيعة حتى ينتبه السنة إلى المؤامرة» كوارث عدة: تكريس الوجود الأميركي وإطالة عمره، إطلاق جنون الطائفية في العراق وتصديرها (بالتحالف غير المقدس مع سياسة إيرانية شبيهة)، تقسيم العراق وشرذمته، وتوطين الإرهاب في قلب العالم العربي.
في سورية، حافظت «مقاومة» القاعدة و»داعش» على النظام الدموي في دمشق، وأفشلت الثورة السلمية النبيلة، وحطمت سورية تماماً عبر تسويغ التدخلات الخارجية من حزب الله وإيران إلى روسيا وكل العالم.
في فلسطين، لم تحقق حركة «حماس» وهي أقرب الحالات إلى المقاومة المعقولة بسبب انخراطها في معركة تتسم بإجماع على عدالة قضيتها أي منجز حقيقي على الأرض. استراتيجية العمليات الانتحارية التي تبنتها لسنوات عدة سوغت لإسرائيل بناء الجدار العازل، وصعدت من التضامن العالمي معها، وجرّت على الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية كوارث لا تحصى. على الأرض، سعرت تلك العمليات من الهوس الأمني عند إسرائيل لدرجة تقطيع أوصال الأرض الفلسطينية عبر الحواجز الأمنية وتحويل المدن إلى معازل منفصلة لا تتواصل مع بعضها البعض إلى في الحد الأدنى. أي جردة حساب بعقل بارد لحصيلة تلك العمليات تشير إلى خلاصة كارثية. وفي خلاصة الخلاصات فإن كل ما أنجزته تلك العمليات و»مقاومتها» بنية عسكرية لـ»حماس» استخدمت لاحقاً في الصراع الداخلي وللسيطرة على قطاع غزة وإحداث انقسام رأسي أنهك فلسطين والفلسطينيين منذ عقد من الزمان.
ثانياً: هل هناك علاقة للإرهاب المُنتسب للدين بالدين نفسه؟ الجواب نعم، لأن الدين أي دين ليس سوى التفسيرات والتأويلات التي يقدمها رجال الدين للنص المُقدس. والنص المُقدس لا يشتغل لوحده في الفراغ، بل يتم إيصاله للمتلقين والناس العاديين عبر التفسير ورجال الدين. وكل من يقول إن هذا الفعل أو ذاك لا يعبر عن الدين الحقيقي فإنما ينطلق من نوايا حسنة ومدفوع بالضمير الديني البسيط، الذي سرعان ما تصدمه تفسيرات شرسة وقوية من جحافل المفسرين والمتطرفين تبرر القيام بكل شيء ضد العدو: من قتله، واستحلال كل ما يملك، بل ... وصولاً إلى حرقه حياً، كما بررت «داعش» فعلتها المجرمة بناءً على مقولات وتفسيرات دينية. التفسيرات الدينية والتأويلات التي يمكن ببساطة أن يُفهم منها أن الشهادة هي الانتحار الرخيص ضد مقهى هنا أو ناد يرتاده «الكفار» هناك منتشرة في ثقافتنا الدينية والتعليمية والمسجدية طولاً وعرضاً وعلينا أن نواجهها. ما هي النظرة المتأصلة لـ «غير المسلمين» ونحن نستمع أسبوعياً لآلاف الخطباء يدعون الله «بألا يبقي منهم أثراً»، ويقرأ أبناؤنا يومياً فصولاً وكتباً على مقاعد الدرس لا تؤسس إلا للنظرة الاستعلائية عليهم واحتقارهم إما صراحة أو استبطاناً. علينا أن نقر أولاً بأن الثقافة المدرسية والمسجدية تؤسس لـ «داعشية كامنة»، حاسمة في نظرتها للآخر، وقاسية في أحكامها، واستقصائية في جوهرها. الداعشية الكامنة هي الرأسمال الكبير والخطير الذي تعتاش عليه الداعشية المتوحشة والتي استطاعت الوصول إلى السلاح وتفعيل كثير من الفهم الداعشي الكامن الذي لم تتح له الفرصة للتعبير عن نفسه. والداعشية هنا وخلال العقود القليلة الماضية لم تكن مقصورة على بلد أو مجتمع أو طائفة، بل هي عابرة للبلدان والمناهج التعليمية والطوائف، فكما هي تستعر في أوساط «السنة» فإنها تستعر أيضاً في أوساط «الشيعة»، وتطرفها ينافس بعضها بعضاً في تحطيم مجتمعاتنا. مستقبل هذه المنطقة وأجيالها ومجتمعاتها مرهون باستئصال الداعشية الكامنة وامتلاك الشجاعة الكاملة في الإقرار بوجودها، ثم التحرك لمواجهتها استراتيجياً وبطول نفس، لأن الخراب الذي تجذر بسببها من الصعب إصلاحه بسياسات قصيرة الأمد.

khaled.hroub@yahoo.com