خبر : الإنقلاب وتكنولوجيا الإعلام ...د. عبدالله السعافين

الأحد 17 يوليو 2016 12:39 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الإنقلاب وتكنولوجيا الإعلام ...د. عبدالله السعافين



عندما اقتحم جنود المحاولة الإنقلابية مقر التلفزيون الرسمي التركي الرئيسي محاولين السيطرة على صوت الحكومة، كان الرئيس التركي يخاطب شعبه عبر تطبيق فيس تايم على شاشة لا تتجاوز مساحتها سنتيمترات معدودة. 
لم يعد بالإمكان إذن السيطرة على أثير التواصل الإعلامي بين الحكومة وشعبها بمجرد الإستيلاء على مقر الإذاعة أو التلفزيون كما كان الحال عبر التاريخ وحتى ليلة الخامس عشر من تموز لهذا العام 2016، حيث أمكن للرئيس مخاطبة شعبه عبر عالم افتراضي قائم بذاته يموج بملايين البشر الذين يتواصلون بلا بروتوكولات ولا قيود.
 مذيعة في الأستوديو تتصل من هاتفها بالرئيس فيرد عليها صوتاً وصورةً فتنقل كاميرا الأستوديو المكالمة إلى الفضاء الواسع، فيصبح بطرفة عين سيطرة جنود أو غيرهم على مقر التلفزيون بلا جدوى، وبلا أي فائدة ترويع موظفيه، وبلا أي قيمة إجبار مذيعة فيه على تلاوة بيان الإنقلاب.
ظلت الإنقلابات تقع عبر التاريخ الحديث وخطوتها الأبرز هي فصل النظام القائم عن شعبه عبر البيان رقم واحد الذي تبثه وسيلة الإتصال الوحيدة التي تخاطب عبرها الدولة مواطنيها ألا وهي الإذاعة أو التلفزيون.
 هذا عصر انقضى، وولى إلى غير رجعة، وإن جاز لنا أن نسجل تاريخاً محدداً لنهايته فهو 15 تموز يوليو 2016، حين فرض الإنقلابيون في تركيا وعبر التلفزيون الرسمي نظام حظر التجول وأعلنوا الأحكام العرفية وتعطيل الدستور فلم يستجب لهم أحد.
 على عكس الماضي حيث كان المواطنون المرتعبون الخائفون من الدبابات والقلقون من المستقبل يلتزمون بيوتهم، ويخلون الشوارع تاركين دبابات عساكر الإنقلاب ودورياتهم تصول وتجول بأريحية، مثبتتة واقعاً جديداً، معلنة نهاية عهد وبداية عهد آخر.
 لكن نداء من 8 ثوان عبر شاشة هاتف نقال صدر عن رئيس البلاد كان أقوى من كل نداءات الإنقلاب وبياناته، ولم يمض على بيان الإنقلاب الذي تلته المذيعة تحت تهديد السلاح سوى دقائق حتى امتلأت الساحات بالجماهير التي نزلت للشارع تنزع عن الإنقلاب شرعيته، وترفض عودة عجلة البلاد إلى الوراء، وترفض أن يلغي العساكر المتحصنون بمدرعاتهم قرار الشعب وخياره الذي رسمه عبر صناديق الإقتراع.
الإعلام المعارض للرئيس التركي أردوغان إعلام وطني أولويته مصلحة البلاد والحفاظ على مسيرتها الديمقراطية ووحماية خيار الشعب الذي هو من يضمن للمعارضة وجودها واستمرارها وممارسة حقها في المعارضة. نقطة اللقاء هذه هي التي جعلت  الإعلام المعارض والموالي يتحد كالصخرة الصماء أو الطود الشامخ في وجه الإنقلاب والعسكر.
 لو كان الإعلام المعارض إعلاماً مأجوراً أو ممثلاً لطابور خامس كما هو في بعض بلدان المنطقة لنجح الإنقلاب كما أفاد بذلك إعلاميون أصدقاء لي يعيشون في تركيا. 
نجاعة أمنية استخبارية، وتماسك النخبة السياسية، وانحياز النخبة الإعلامية إلى الديمقراطية، أنتجت كلها شعباً واعياً يتواصل عبر فضاء افتراضي أقوى من الواقع في عالم بات فيه الواقع منزوياً خجلاً أمام الإفتراضي، شعباً يرفض العودة إلى الوراء، كما رفضت الكاتبة التركية مروى شبنم التراجع من أبام دبابة إنقلابية متحدية من بداخلها أن يطلقوا النار عليها، لأنها مستعدة للموت في سبيل الحفاظ على اختيارها وحريتها في انتخاب من يقود بلادها. 
لهذه الأسباب الإعلامية والسياسية والثقافية، وبسبب وجود هذه النماذج، فشل الإنقلاب العسكري في تركيا، وانتصر الشعب.