كان يفترض ان نولي هذه الانعطافة التركية مساحة أُخرى من المتابعة والتحليل لولا التدخل المصري المفاجئ، وربما الاعتراضي على الخط كما يقولون. لنضع جملة اعتراضية هنا وعلى السرعة لنقول ان الدولتين المحوريتين تركيا ومصر بدأتا الآن عهداً جديداً من التقارب مع إسرائيل، في ذات الوقت واللحظة التي بدأت فيها أوروبا وأميركا في نفض وغسل يدها من اثم هذا التحالف مع إسرائيل.
ولقد كان يمكن لانتكاسة دبلوماسية مفاجئة وغير متوقعة مثلت خروجاً وانحرافاً عن السياق والنص، والمقصود بذلك تقرير اللجنة الرباعية الأخير، ان يكون هنا هو موضوعنا الرئيسي والوحيد وذلك بعد أن واصلنا بلا هوادة او توقف عن متابعة تسجيل كل تلك العلامات او المتغيرات التي بدا وكأن بطن العالم والغرب تحديداً يفيض بها، توعداً لانتقام قاس من إسرائيل. هذه إسرائيل العاصية والتي بدأت في التحول الى الفاشية. وقد كانت هذه الانتكاسة التي سارع المبعوث الفرنسي والأمين العام للأمم المتحدة مؤخرا الى محاولة إعطاء الانطباع بإصلاحها، كما لو انها لحظة تلقي بدش بارد على رهاننا بشأن المؤتمر الدولي العتيد.
لم نفهم او نعرف كيف حدث هذا الاختراق؟ لكن او لم نتحير في هذا السياق النادر من تزاحم الاحداث بنوع آخر من شقاء العاطفة، بينما كانت فرنسا والبرتغال تخوضان هذه المعركة العاطفية القومية ولكن الرياضية على الفوز بكأس أوروبا، اين نوزع عاطفتنا؟ مع رونالدو الذي استقبل الطفل من عائلة الدوابشة الناجي الوحيد من المحرقة الشهيرة عربوناً للتعاطف مع فلسطين، أم مع فرنسا التي أهدتنا مبادرتها وأغاظت إسرائيل بل أشعلت النار ولا زالت في قلب نتنياهو واليمين الإسرائيلي الفاشي والمتطرف، حتى ان رئيسة حزب ميرتس المحترمة قالت تعقيبا على ذلك في هذا السياق جملة تاريخية تستحق ان تكتب كخاتمة او قفلة نهائية، تختزل الحقبة الماضية من الصراع : «لقد انهارت نظرية نتنياهو الآن حول مواصلة إدارة الصراع».
وقال المبعوث الأممي ونحن في عصر المبعوثين انه اذا ما تلاشى حل الدولتين، فإن الفلسطينيين والإسرائيليين بل الشرق كله سوف يغرق في عنف ابدي، وهذه جملة أُخرى تضع إشارة على الجدار. لكن الجملة البلاغية والأكثر تعبيرا عن الواقع هي المعادلة التي رسمها بطريقة بلاغية بان كي مون، هذا الأمين العام لأمم المتحدة، بينما يستعد لمغادرة منصبه موجها كلامه للإسرائيليين: «ان كل حجر تبنونه في المستوطنات هناك على ارض الدولة الفلسطينية ينزع حجراً من شرعية وجود إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية».
لكن هاكم ما دمنا في سياق الأقوال، الجملة التي قالها هذه المرة بنيامين نتنياهو، ونرى في هذا الموضع انها هي الجملة الواجب ان نتوقف عندها وتستأثر اكثر من غيرها بالتحليل. قال نتنياهو مساء يوم الأربعاء وفي معرض خطابه أمام طلبة كلية الأمن القومي الإسرائيلي: لقد استطعنا اختراقهم «أي الدول العربية» وما يحدث الآن ان تحولا جذريا يحدث في علاقتنا مع العرب الذين لم يعودوا ينظرون إلينا كأعداء وإنما كحلفاء، وقد اعتقدنا في السابق ان سلامنا مع الفلسطينيين هو شرط قبول العرب بنا، ولكن يتضح الآن ان العكس ممكن، أي ان العلاقة أولا مع العرب كمفتاح لإقامة سلام واقعي ومستقر مع الفلسطينيين لقد تغيرت المعادلة.
وبرأي كانت هذه جملة موجهة بالدرجة الأولى الى الإسرائيليين كنوع من عزاء النفس تهدف الى رفع المعنويات في مواجهة العزلة التي يعاني منها الرجل وفريقه اليمين المتطرف، ويقذف بها أيضا في وجه الأوروبيين وحتى الأميركيين، اكثر ما تعكس الحقيقة.
نعم، إن تحولاً جذرياً قد حدث في الوضع الجيوسياسي للعرب بانهيار دولتين عربتين محوريتين كالعراق وسورية، وتفوق تيار الثورات المضادة على ثورات الربيع العربي. ولكن هذا التحول لم يلامس صلب المقاربة الإجمالية التي تنطوي عليها المبادرة العربية تجاه عقد السلام مع إسرائيل، وهي مقاربة اشتراطية في جوهرها لا تضع العربة أمام الحصان كما حاول نتنياهو بطريقة مراوغة، ان يلمح الى أن ذلك اصبح ممكناً. وعليه فإن السؤال الحري أن يطرح هنا لكشف حقيقة الكذبة، من قال له من الدول العربية المحورية او همس في أذنه أن ذلك ممكن؟ أي تقديم السلام والتحالف مع إسرائيل دون إقامة الدولة الفلسطينية وحل القضية الفلسطينية أولاً، أي قيامه هو بالشرب من البئر أولا؟ والجواب لا احد.
ونقول هنا لئلا يشتري أحد أو يقبض هذه الألعوبة الإعلامية على محمل الجد، ان العنصر الرئيسي في مبادرة السلام العربية هو مقاربتها الاشتراطية الثانية، أي في تطبيقها الجمعي بين طرفيها، أي الفريق العربي الإسلامي ككل وإسرائيل. وليس بالمفرق على طريقة التجزئة او البقال. وبهذا المعنى فإن السؤال الثاني الذي نطرحه: من من الدول العربية تملك منفردةً هذا التفويض او التوكيل للتفاوض مع نتنياهو على هذا السلام الذي يقوم على قلب المعادلة أو القاعدة الأساسية للمبادرة العربية؟ والجواب أيضا لا أحد.
واذن عن أي تحول جذري يتحدث الرجل؟ والجواب كما اشرنا هنا قبل وقت الى تبلور الفرصة السانحة اكثر من اي وقت مضى، منذ إنشاء إسرائيل لقبول العرب بإسرائيل، وربما الذهاب الى حد إدماجها في البيئة السياسية الشرق أوسطية، واعتبارها حليفا بسبب المتغيرات الجذرية التي حدثت في الإقليم، ولكن باشتراطية لا يمكن تجاوزها او القفز عنها، ان تكون إسرائيل نفسها مستعدة للانحناء والتقاط هذه الفرصة بدفع الثمن بحل القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال. وعليه فان السؤال ثالثا هل نتنياهو وفريقه ناضج ومستعد لدفع الثمن؟ والجواب كلا. اذا ما أدركنا ان كل ما يحاول نتنياهو الثرثرة حوله وتسويقه إعلاميا عن السلام الإقليمي، إنما هو من أجل الالتفاف على المبادرة الفرنسية والمؤتمر الدولي وما عدا ذلك هراء.
لكن، واأسفاه يا فرنسا مرة اخرى ان العين لتدمع والقلب ليحزن لما حدث مساء اليوم الخالد في التاريخ ذكرى الرابع عشر من تموز.


