خبر : ثلاثة مشاهد وحقيقتان! محمد ياغي

الجمعة 15 يوليو 2016 10:39 ص / بتوقيت القدس +2GMT





أهمية الإعلام لا تكمن في نقلة الحقيقة للجمهور وفي مراقبته أداء السلطة التنفيذية كما يريد لنا أن نصدق أصحاب الأجندات الحالمة بعالم مثالي، ولكن في قدرته على شد إنتباه الجمهور الى جزئية في الصورة قد لا ينتبه إليها المشاهد إذا لم يسلط الإعلام الضوء عليها.
الجزئية هذه تصبح بفعل تركيز الإعلام عليها الحقيقة الوحيدة، الخبر اليقين، وتتحول بالتالي الي موضوع رأي عام يتحدث الناس عنه ويصدقونه. أما إذا تجاهلها الإعلام، فإنها لا تعود حقيقة، ولا خبر، ولا يبقى منها شيء في ذهن الجمهور.
دعونا نحلل ثلاثة أحداث غطاها الإعلام الغربي والعربي تكشف لنا أن الإعلام يتبع مالكه الحقيقي، وأن الإعلام تمتلكه قلة في العالم العربي، وربما في العالم كله.
المشهد الأول: سورية، يوم الأربعاء، ٢١ آب ٢٠١٣
الإعلام الغربي والعربي ينقل أخبار بشكل متواصل عن تعرض منطقة الغوطة، شرق دمشق لهجوم بالأسلحة الكيماوية. الضحايا أكثر من ألف قتيل، المتهم في الإعلام النظام السوري. المتهم يعلم جيداً أن إستخدام السلاح الكيماوي قد يستدعي تدخلا غربيا عسكريا ينهي وجوده كنظام.
تعارض مصلحة النظام مع إستخدام السلاح الكيميائي، على الأقل كان يجب أن يثير الشكوك وأن يحفز الإعلام على تحري الحقيقة. لكن الإعلام الغربي والعربي حمل النظام المسئولية وبدأ التحضير لتغطية عمليات القصف الجوي للطائرات والصواريخ الأمريكية لقوات النظام.
أوباما، الذي وعد بإستخدام السلاح ضد النظام السوري في حالة تجاوزة لخطوط حمراء منها إستخدام إستخدام السلاح الكيميائي، يتراجع عن العمل العسكري، ويكشف بعد الحادثة بثلاث سنوات، في مقابلته الشهيرة مع الصحفي جيفري غولدبيرغ التي نشرها تحت إسم « عقيدة أوباما» في مجلة ذا أتلانتيك، أن المخابرات المركزية أبلغته بأنه لا توجد معلومات موثقة مائة بالمائة أن النظام السوري هو من إستخدم الكيميائي.
النظام السوري بقي المتهم الرئيسي في الإعلام وكلام أوباما عن عدم وجود «معلومات موثقة» لم يبادر أحد الى نقله. أوباما نفسه صورة الإعلام بالقائد الضعيف الذي لا يدرك حجم القوة التي يمتلكها كرئيس لأقوى بلد في العالم. الصورة بقيت كما هي: نظام دموي لا يمانع قصف شعبه بالكيميائي للإحتفاظ بالسلطة.
المشهد الثاني: اليمن، الثلاثاء، ٥ كانون الثاني ٢٠١٦
الأمم المتحدة تصدر تقريراً عن الحرب في اليمن تؤكد فيه أن عدد الضحايا المدنيين في الفترة الواقعة بين ٢٦ آذار و ٣١ كانون الأول ٢٠١٥ تجاوز الثمانية آلاف منهم أكثر من ٢٧٠٠ قتيل. الأمم المتحدة تحمل السعودية وحلفائها المسئولية عن الضحايا وتتهمهم بإستخدام قنابل عنقوية في حربهم على الحوثيين اليمنيين وحلفائهم.
الإعلام الغربي ينقل التقرير بخجل. الإعلام العربي يشير له دون إهتمام. الأمم المتحدة نفسها تتراجع عن إتهام السعوية. الإعلام الغربي يصمت عن التراجع. الإعلام العربي يشير للتراجع بالقليل من الإكتراث وكأنه يقول لا نريد العودة للحديث عن ضحايا مدنيين في اليمن.
القصة تموت في أقل من أسبوع.
المشهد الثالث: بغداد، الأحد، ٣ تموز ٢٠١٦
شاحنة تبريد ملغومة تدخل سوقا تجاريا مليئا بالناس في حي الكرادة، بغداد. التفجير يحدث زلزالاً في السوق مخلفاً أكثر من ٢٩٠ قتيل و ٢٠٠ جريح.
الإعلام الغربي ينقل الخبر. بعضه كخبر رئيس يتراجع بعدها في نفس اليوم الى خبر ثانوي، ويختفي من الإعلام في اليوم الثاني.
الإعلام العربي ينقل الخبر بنفس طريقة الإعلام الغربي في اليوم الأول، ولكنه يستمر في التغطية في اليوم الثاني ولاحقاً له. التغطية لم تعد عن الضحايا ولا عن مجرمي داعش اللذين اللذين قاموا بالتفجير، ولكنها عن فساد النظام العراقي.
الجزيرة تنشر تقريراً في اليوم الثالث للجريمة عنوانه «تفجير الكرادة.. عندما غطى لون الدماء ملابس العيد». في التقرير لا تجد الضحايا ولا ملابس العيد ولكنك تجد إدعاء «داعش» بأنه ضرب منطقة يتجمع فيها «الحشد الشعبي»، وتجد أن المسئولية يتحملها النظام العراقي الفاسد الذي لا يزال يستخدم أجهزة للكشف عن متفجرات من صفقات فساد من أيام نور الدين المالكي.
المشهد في تقرير الجزيرة يتحول من إجرام داعش، الى ربما داعش محقة في أن حي الكرادة هو مكان تواجد «الحشد الشعبي» وأن «حكومة العبادي» مسئولة عن المذبحة ربما أكثر من داعش نفسها بسبب فسادها.
ثلاثة مشاهد تؤكد لنا بأن الإعلام الغربي والعربي لا يقوم بنقل الحقيقة للناس بمقدار ما يحاول توجيه أنظارهم في الإتجاه الذي يريد.
في المشهد الأول، الإعلام أراد منا كمشاهدين، مستمعين، أو قارئين للصحف أن نوافق وأن ندعم قصف أمريكا للنظام السوري وجيشه إذا ما قررت ذلك.
في المشهد الثاني، الإعلام أراد أن ينسيناً المدنيين الذين يتعرضون للقتل بتجاهله لتقرير الأمم المتحدة أولاً، ومن ثم بتجاهله رفع إسم السعودية من التقرير.
المشهد الثالث في نسخته العربية أراد تكريس صورة النظام العراقي الفاسدة وأن يبعدنا عن التفكير في داعش المسئولة عن قتل مدنيين عزل في شهر فضيل. وفي نسخته الغربية كان ظاهرة إستعلائية إذا ما قارنا تغطيتة لجريمة الكرادة بتغطيته للجريمة التي وقعت في أورلاندو: أسماء الضحايا وصورهم سمعناها وشاهدناها على مدار أسبوع متواصل.
مشاهد ثلاث وحقيقتان:
الحقيقة الأولى: الإعلام العربي ينفذ سياسات الدول التي تصرف عليه. هو إعلام لا يبحث عن الحقيقة بمقدار ما يحاول تشكيل الرأي العام في الإتجاه الذي تريدة الدول التي تمتلكه.
الحقيقة الثانية: المشاهد الثلاث تقول لنا بأن من يمتلك الإعلام العربي هو دول الخليج لأن محتوى الخبر في هذه المشاهد يعكس سياسات هذه الدول التي نسمعها يومياً من نفس هذا الإعلام.
هل يمكن معرفة الحقيقة من إعلام مملوك لدول أو أشخاص لهم أجندات سياسية؟
الجواب ليس سهلاً بالطبع. المشاهد الثلاث تخبرنا أن علينا أن نكون أكثر شكاً في وجبات الأخبار المقدمة لنا يوميا.