التعريف العلمي للغيبوبة أنها حالة فقدان وعي عميقة، لا يمكن للفرد خلالها أن يتفاعل مع البيئة المحيطة به، ولا يمكنه أيضا الاستجابة للمؤثرات الخارجية.
بداية ، علي أن أنوه ، بل أطلب و أرجوا من حضراتكم بإلحاح ، تحمل قراءة الأسطر التالية رغم ما فيها من ثقل ، و ربما ما يحتاج إلى مستوى من التيقظ و الإنتباه ، أقول و الله المستعان : هناك يا حضرات ، نوعان من الغيبوبة ، أولها الغيبوبة الفردية ، و ثانيها الغيبوبة الجمعية ، أو المجتمعية ، التي تصيب مجاميع من البشر ..
يمكن للغيبوبة أن تنجم بسبب حدوث صدمات للدماغ ، أو للوعي الكلي للمجتمعات ، كالكوارث و الحروب مثلاً أو البطش و الظلم الجماعي .. الإشكال يا سادة ليس فقط في الإصابة بحالة غيبوبة ، بل في إستعادة الوعي ، فالمجتمعات التي تصاب بالغيبوبة ، علمياً ، لا تستعيد عافيتها المعرفية و الإدراكية الطبيعية بسرعة ، علماً بأنها تبدوا كذلك من حيث الأداء ( الحركي) و النشاط الإجتماعي .....
وكما أسلفت ، فهذه الحالة تصيب المجتمع ، بسبب تعرضه لصدمة شديدة مثل الكوارث الطبيعية كالزلازل و البراكين و الأعاصير ، و غيرها من المحن و الإحن كالحروب و المذابح أو التعرض المستمر للقهر و الظلم و الحصار و غياب العدل و إنحسار الأمل و الأفق و ضنك العيش ..
و الغيبوبة الجمعية ، لاتعني ، بالضرورة ، إصابة الفرد بغيبوبة أو فقدان القدرة على الإدراك ، حيث يرى كثير من المفكرين و أصحاب النظريات في هذا المجال ، أن الوعي الفردي هو دائما في حالة صراع مع الوعي الجمعي الغائب ..
و لشرح هذا الكلام الذي يبدوا معقدا و قبل أن تفقدوا شهيتكم لإكمال القراءة ، إسمحوا لي أن أضرب مثالاً ، قاائماً على الحقيقة التالية :
الوعي الفردي ، لدى كل واحد منا قائم في الأساس على مدى الإقتناع العقلي و المنطقي الذاتي للفرد ، بما يصله من معرفة .. و عل الوعي الجمعي في مجمله يقوم على خلاف ذلك، فهو لا يستطيع استقبال كافة الرسائل المعرفية على نحو صحيح، فهناك الكثير من المعلومات التي لا قبل له بتلقيها والتفاعل معها، ويرجع ذلك إلى طبيعة بنيته التي لا تتجاوب مع التفصيلات ولا تميل إلى التدقيق، إضافة إلى إنشغاله " المجتمع" بأمور أكثر إلحاحاً من المعرفة كالأمن و الأكل و السكن و غيرها من إحتياجات ( القطيع) ، أما القسم الذي يُسمح باستقباله، فغالباً مايكون ناقصاً أو مشوها.يقول (جوستاف لوبون) -أحد مؤسسي علم النفس الاجتماعي- عن معنى الوعي الجمعي: إنه الاستجابة غير العقلانية لما تردده الجماعة، يعني بالمختصر المفيد ( حط راسك بين الروس و قل يا قطّاع الرؤوس ) .. لذلك كانت الفكرة الصادمة التي جاءت بها الأديان غير قابلة لإحداث غيبوبة جمعية،لماذا ؟ لأنها كانت ومازالت قائمة على أساسا الإقناع العقلي للفرد ، و من ثم إنتشار الوعي إلى المجتمع بمقدمة بسيطة هي فكرة ( أن هناك إله ، و أنه واحد أحد لا شريك له ) . وقفت هذه الحقيقة الصادمة ، أمام ما أصاب المجتمع من غيبوبة مشوهة بثتها طوائف أو سلطات ، أو كهنوت أو مصالح قبلية أو عرقية أدت إلى الشرك و الإلحاد و العبثية . فالمسلمين الأوائل في بداية تاريخهم لم يكن مطلوباً منهم إلا الشهادة بأن (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وهذا الامر قضية تشريعية تتعلق بمستويات الوعي الفردي أولاً ، ومن ثم الجمعي للمجتمع الاسلامي في بدايات حركته نحو التكامل الواعي بين الفرد و المجتمع . فالكثير من المسلمين ماتوا وقتها وهم لا يملكون في سجلهم التاريخي إلا هذا الموقف. فكلما أدركت الامة قيمة إقتناع الفرد بالأطر المبادئ العامة ، كلما تمكنت من وضع ملامح حركتها المستقبلية و هنا يظهر التناغم بين الوعي الجمعي و الوعي الفردي القائم على المنطق و القياس العقلي و بين الغيبوبة الجمعية القائمة على الإنصياع للإشاعة و الغالب و الإجماع و التأثر بالدعاية و الإعلام و زخرف القول و التلبيس الديني و الروحاني و الأوهام و العواطف على حساب الإقتناع الذاتي ..
وغالباً ، المجتمعات المصابة بحالة غيبوبة ، تجد أنها منقادة و منساقة للطاعة العمياء و الخمود و الإستكانة في الطاعة ، رغم الصراع المرير بين الشكل العام للطاعة و الغيبوبة الجمعية و بين حالة الرفض العقلانية للفرد لهذه الطاعة .. و ربما يظهر هذا واضحاً في الآية الشريفة من سورة الزخرف التي يصف فيها الله تعالى حالة القوم ( الفاسقون) في غياب منطقهم و وعيهم و كيف يطيعون فرعون رغم بطشه و ظلمه و إستخفافه و إهانته لهم : قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ (56)}. (الزخرف) .
جيد ، فما هو الحل إذن ؟ كيف يمكن لمجتمعاتنا أن تخرج من هذه الغيبوبة الجمعية ؟
أعتقد أننا بداية يجب أن نلتفت إلى الحقيقة الغائبة ، و هي - مبدأ ربط مكونات الهوية الثقافية الوطنية برابط آمن ودائم و الثقافة الوطنية هنا ، لها ملامح و مميزات ، أولها أنها وطنية ، فلسطينية ، خالصة ، و تحمل راسلة خالدة ، دينية مسيحية و إسلامية ، منصهرة في قالب واحد إسمه القومية العربية ، إذا آمنا بالتراكم الإيجابي لهذه المكونات في تشكيل المعرفة ،لأن قيمة المعرفة تكمن في شموليتها وإحاطتها بمجمل العلاقات التكوينية والوجودية والتشريعية على السواء. وهذا يعني أن نحرر الفكر من القيود ، فالخضوع الكلي لأفكار وطروحات عدد محصور من الرجال أو الزعماء ، أو الأحزاب أو التيارات أو الحركات السياسية ، من الإشكاليات القديمة والمعاصرة هي محاولة حصر مفهوم الامة بالمنظور القبلي العشائري، إذ ان الموقف الحضاري للامة يقع خارج إطار القبلية و الحزب و الحركة التي تهدف إلى السيطرة على وعي المجتمع ، بتغييب وعيه الأصلي و إختزال ثقافته التراكمية في مبادئ رؤيتها الخاصة ، و قد أدى كما هو ظاهر و ملموس و مشهود عليه لا محالة إلى حالة البلبة المجتمعية و الفراغ المعرفي وربما تم استخدام الشعارات العمومية التي تهدف إلى تجاوز الموقف مرحليا، أو لتمرير ما لا يمكن مروره وفق مقولات لا يمكن مواجهتها أو دحضها بشكل مباشر أو آني، على سبيل المثال ما حدث في روسيا في أعقاب ثورة 1917، إذ كان من غيرالممكن تمرير كلمات ذات طابع اشتراكي، وإقناع الفلاحين بمزايا الاستغلال الجماعي الواسع للأرض، ووجوب التخلي عن الملكية الخاصة، ولكن ( لينين) صاغ، ببراعة شديدة كلمة سر لم تكن منتظرة نهائيا : الأرض للفلاحين. إنه مثال كلاسيكي لتحليل نفسي -مجتمعي مؤسس على الوعي الممكن .وهذا ما فعلته و تفعله أحزابنا نحن و حركاتنا المتلحفة بثوب الدين أو الوطنية ، تماما مما سهل وقوعنا في فخ التسلط و الإنقياد طوعاً للغيبوبة ، و الرضا بالظلم و الإستخفاف التي أشار لها الله تعالى في الآية 56 من سورة الزخرف .
إذا إستطاع الأمناء في هذه الأمة ، الوطنيون و المتمسكون بصحيح الدين ، غير الغائيين و غير الطامحين إلى مكاسب شخصية ، إذا إستطاع الإعلاميين ، و القانونيين ، وغيرهم من المثقفين ، و الخطباء و الدعاة و القسس و الرهبان و كل من كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ، أن يوصل هذا الرسالة ، إلى المجتمع ، أصبح الوعي الجمعي مؤسساً على الرفض لا القبول و الخنوع ، جامحا لا سبيل لاحتوائه سوى بإرضائه و إيجاد صيفة وعي مجتمعي تتوافق فيها منطقية الإقتناع الفردي بالسلوك المجتمعي ، و عندها ، تحدث حالة الإستفاقة و النهوض .


