خبر : الاتفاق التركي الاسرائيلي .. ثمرة التغيرات الجيوسياسية ...بقلم: إسماعيل مهرة

السبت 02 يوليو 2016 04:01 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الاتفاق التركي الاسرائيلي .. ثمرة التغيرات الجيوسياسية ...بقلم: إسماعيل مهرة



منذ عشر سنوات، وعندما كانت الديبلوماسية التركية تقوم على معيار (صفر مشاكل)؛ فقد اختطت لنفسها توجهًا سياسيًا يقوم على تصعيد وتوتير العلاقة مع إسرائيل والتقرب أكثر للقضايا العربية والإسلامية وقضايا الإقليم، بما فيها حصار إيران وملفها النووي، وبغض النظر عن الأسباب التي يحاول البعض ربطها بفشل مساعيها للانضمام للاتحاد الأوروبي أو رغبتها لاستعادة النفوذ العثماني أو حسمها لهويتها ودعمها لما يسمى "الإسلام السياسي" أو ببساطة البحث عن مصالحها في الإقليم.
وسريعًا يبدو انه بتخطيط مسبق من أنقرة تدهورت العلاقة مع إسرائيل إلى حدود الصدام والقطيعة السياسية، رغم المحافظة على بعض القنوات الأخرى وفي مقدمتها الاقتصادية، فتحولت تركيا من وسيط لمحادثات السلام بين الأسد الأب وإسرائيل إلى دور هجومي ترجم في هجوم أردوغان الناري ضد الرئيس الاسرائيلي آنذاك بيرس أثناء لقاء نظم في دافوس سنة 2009، متهمًا إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وقتل الأطفال، ولاحقًا فيما عرف بأزمة سفينة مرمرة وتبني شعار رفع الحصار عن قطاع غزة، واعتباره أحد أهم شروط أنقرة لإعادة العلاقات مع إسرائيل، بالإضافة طبعًا للاعتذار والتعويض.
بيد ان العشر سنوات الماضية التي مرت على المنطقة شهدت زلزالًا مدمرًا عاصفًا، سقطت أو تفككت فيه دول ونجحت فيه دول أخرى بأن تتحول إلى قوى إقليمية، وبسبب فشل السياسات التركية وفشل مراهناتها وجدت تركيا نفسها في أتون نار الاضطراب الإقليمي، وكأن النار التي كانت جزءًا من إشعالها بدأت ليس في أطرافها فقط، بل وامتدت عبر كل أراضيها المترامية، وأدخلتها في أزمات أمنية وديبلوماسية واقتصادية وانسانية وداخلية، وديبلوماسية "صفر مشاكل" تحولت إلى كابوس من المشاكل.
في مايو من العام 2010 لم تكن تركيا لتتخيل انها ستضطر، بل وستستجدي إسرائيل للتوقيع على مثل هذا الاتفاق الذي يمثل خنوعًا وإذلالًا، كما ان إبقاء الحصار البحري ينطوي على تسليم بشرعيته واعترافًا ضمنيًا بخطأ رحلة سفينة مرمرة لكسر الحصار البحري؛ حيث ان الحصار البحري كان أصل الأزمة ومفجرها، فلولا الحصار لما استشهد النشطاء الأتراك ولما قطعت العلاقات الديبلوماسية ولما تدهورت العلاقات بين البلدين إلى حد الصدام، والاتفاق على تطبيع العلاقات في ظل إبقاء الحصار والتسليم به لا يعني سوى التراجع والتنازل والاستجابة للإملاءات الإسرائيلية التي تمسكت بها إسرائيل منذ نشوب الأزمة.
ان درجة الهرولة - بل والاستماتة - التركية في توقيع الاتفاق يمكن الوقوف عليها ليس فقط عبر التنازل عن شرط رفع الحصار؛ بل على موافقة تركيا على "بذل كل جهد لإعادة الأسرى والمفقودين الإسرائيليين لدى حركة حماس"، وقد أكد نتنياهو انه تسلم نسخة من الكتاب الذي وجهه أردوغان للجهات المناسبة المكلفة بمهمة المساعدة على إعادة المفقودين، وتعهد تركيا بمنع أي نشاط "إرهابي" أو عسكري ضد إسرائيل من الأراضي التركية، بما في ذلك جمع الأموال لهذه الأهداف، بالإضافة لعزل رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان وتكليفه بإشغال منصب سفير تركيا في اليابان كحسن نوايا تجاه إسرائيل، ولفيدان في إسرائيل لائحة اتهام كبيرة تبدأ من تعزيز العلاقات مع حماس إلى تسريب الأسرار الأمنية لإيران، بما في ذلك تسليم عدد من الجواسيس لإيران، علاوة على ربط إرسال التعويضات المالية بقيام البرلمان التركي أولًا بتشريع قانون يمنع رفع أي دعاوى في المحاكم التركية والدولية ضد الجنود والقادة الإسرائيليين، وثمة من يقول ان الاتفاق تضمن أيضًا تعهدًا تركيًا بأن لا تتبنى تركيا خطًا معاديًا لإسرائيل في المحافل الدولية، وهي مطالب إسرائيلية ليست ملزمة لتركيا ولم تكن ضمن المطالب الإسرائيلية الأولى، والتي أدخلها نتنياهو في اللحظات الأخيرة عندما شعر ان الموقف التركي أضعف من ان يرفضها.
ويقول براك ربيد عن ذلك في صحيفة "هآرتس" أن "نشاط حماس في تركيا وموضوع المفقودين الإسرائيليين والقتلى في غزة لم تكونا جزءًا من الاتفاق الأصلي وغير مرتبطتين بالأزمة بين إسرائيل وتركيا؛ بل استطاعت إسرائيل إدخالهما إلى المفاوضات في محاولة لتحقيق شيء ما، ولم تحصل اسرائيل على كل ما طلبته في هذين الموضوعين، لكنها حصلت من تركيا على المقابل الذي لم يكن من المفروض أن تحصل عليه، حتى لو كان جزءًا من هذا المقابل، مثل تعهد تركيا الضغط على حماس لإنهاء قضية المفقودين وإعادة جثث الجنود، هي مجرد إعلان نوايا فقط، ومن الأفضل وجودها في الاتفاق".
ويضيف "المصالحة كما هي الآن تشكل عمليًا اعتراف تركيا بأنها أخطأت عندما سمحت للقافلة بالخروج، واعترافًا باحتياجات إسرائيل الأمنية فيما يتعلق بغزة، وبتمسك إسرائيل بمطلب أن كل بضاعة تذهب إلى غزة يجب أن تمر عن طريق ميناء أسدود".
إن التغير الكبير الذي حدث على الموقف التركي يرجع بشكل أساسي إلى اضطرارات السياسية وخارطة المصالح التي تغيرت بفعل التغييرات العميقة الجيوسياسية في الإقليم، والناتجة عن مخرجات "الربيع العربي"، أي انها إحدى ثمار الربيع العربي الذي تقطفه إسرائيل، بالإضافة بالطبع إلى ثمار أخرى كثيرة.
فمن ناحية تركيا يبدو ان الاتفاق يشكل لها احتياجًا قويًا بعد سلسلة من الخطوات السياسية والتوجهات التركية الفاشلة، وربما يشكل بالنسبة لأردوغان تحديدًا النجاح الأول الذي قد يعرضه على شعبه؛ فتركيا تعاني من عزلة على مستوى علاقاتها الخارجية مع أوروبا وروسيا وإيران ومصر ومع أمريكا أيضًا، واقتصادها يعاني وفي حالة من التراجع، والسياحة لديها في تراجع شديد، والدولة الكردية باتت تحديًا كبيرًا يطرق أبواب تركيا بشدة، وثمة خطر المزيد من الانفجارات الإرهابية على الساحة التركية، كما انها تدرك ان إيران - التي تحررت من عقوبات الحصار واعترف بها العالم كقوة إقليمية واعترف بشرعية حافتها النووي - ستتحول سريعًا إلى قوة إقليمية على حساب مكانة تركيا الإقليمية.
كما ترقب تركيا التقارب العربي الإسرائيلي وتحول إسرائيل إلى شريك إقليمي للأنظمة العربية، وعليها لكي تكون جزءًا من هذا التحالف ان تنهي أزمتها مع إسرائيل، فتركيا باتت تحتاج للعلاقة مع إسرائيل لتحسين علاقتها مع أوروبا وأمريكا ولتحسين اقتصادها؛ فالغاز الإسرائيلي لتركيا ومروره لأوروبا عبر أراضيها يشكل لتركيا احتياجًا اقتصاديًا قويًا ويمنحها القدرة للتحرر من الضغوط الاقتصادية الروسية، فضلًا عن عودة السياحة الإسرائيلية، وتراهن تركيا أيضًا ان إسرائيل - التي تدعم الأكراد سياسيًا وأمنيًا وتقيم معهم علاقات وتساعدهم في المحافل الدولية - قد تؤثر عليهم إيجابًا بفعل اتفاق المصالحة، كما ان تركيا تريد من العلاقة مع إسرائيل ان تساعدها في مواجهة النفوذ الإيراني، فضلًا عن تطلع تركيا لتبادل المصالح في القضية السورية.
علاقة تركيا مع قطاع غزة
يبدو ان غزة كانت جسرًا وظيفيًا لتحول تركيا إلى لاعب مهم وزعيم للأمة العربية والإسلامية ولتعظيم دورها وللاستفادة من ذلك على مستوى علاقتها بأوروبا كوكيل حصري للشرق الأوسط، وبعد انتهاء هذا الدور بفعل الفشل السياسي التركي وبفعل التغيرات الإقليمية لم تعد غزة بالنسبة لتركيا كما كانت في السابق.
ورغم ذلك يجب التأكيد على ان ثمة بعد آخر للعلاقة التركية مع غزة، وهو البعد الإخواني، وليس المقصود هنا البعد الإسلامي، فإسلاميًا غزة جزء من فلسطين، لكننا لم نرى هذا الارتباط التركي مع الأجزاء الأخرى من فلسطين المحتلة، بما فيها القدس، فالارتباط مع غزة له علاقة بدعم وإسناد الجهة التي تقود القطاع من باب الالتزام الشامل لجماعة الاخوان تجاه حركاتهم القطرية والفرعية في كل بلد، وهذا الالتزام لا زال قائمًا، لكن وكما يقول المثل "العين بصيرة والايد قصيرة" أو كما يقال عندما تصطدم الايديولوجيا بالواقع أو تتناقض مع المصالح؛ فإن أولوية أصحاب الايديولوجيا البرغماتيين من أمثال حزب العدالة والتنمية ستكون لصالح المصالح، ولن يتوانوا عن تطويع الايديولوجيا لتتلاءم مع الواقع لتفادي الصدام والفشل. وهو الأمر الذي يفسر عودة العلاقة التركية الاسرائيلية دون تحقق شرطها الثالث الذي مثل أصل الأزمة، فلولا الحصار لما أبحرت سفينة مرمرة لفك الحصار، ولما حدث الاعتداء العدواني واستشهد تسعة نشطاء أتراك، ولما حدثت أزمة القطيعة الديبلوماسية وملحقاتها بين البلدين.
الغاز الغائب عن الاتفاق الحاضر به بقوة
في إطار دفاع نتنياهو عن الاتفاق قدم عرضًا لأهم الدوافع الإسرائيلية التي دفعته للقبول بالاتفاق، ولخصه بأنه اتفاق هام من الناحية الاستراتيجية لأمن واقتصاد إسرائيل، وساق الكثير من المبررات؛ حيث أكد ان الحصار البحري سيستمر، وتمسك بمصالح إسرائيل الأمنية الحيوية، وأن علاج الأمور الانسانية في القطاع - لا سيما في مجالات الكهرباء والمياه والصحة - يمثل مصلحة إسرائيلية، وإسرائيل لم تمنع أية مساعدات للقطاع تصل عبر ميناء أسدود، وأضاف أن الاتفاق يمثل جزيرة استقرار في منطقة تعاني من عدم الاستقرار، ويلبي مصالح إسرائيل الأمنية والاقتصادية الحالية والمستقبلية، وسيدعم دخول إسرائيل إلى حلف الناتو، وأن الاتفاق يفتح مجالًا للتعاون في الجانب الاقتصادي والطاقي، وأشار إلى أن 60% من كل شيكل يدخل من الغاز يصل إلى صندوق الدولة، وشرح ان الحديث يدور عن مبالغ طائلة، وأن باستطاعة "لفيتان" الآن أن يزود أوروبا بالغاز عبر تركيا، وهذا - حسب نتنياهو - هام استراتيجيًا لإسرائيل ولم يكن بالإمكان ان يحدث دون توقيع الاتفاق، بالإضافة لعرض المزيد من الأسباب الأمنية والإقليمية والسياسية الأخرى.
ورغم ان كلمة "غاز" لم تكتب في الاتفاق إلا ان الغاز كان حاضرًا بقوة، ويعتبر مسؤول لوبي الغاز في إسرائيل وزير الطاقة شتاينتس هو المحرك الأساسي والداعم الأول لتوقيع الاتفاق، ويذكر انه اجتمع لأكثر من نصف ساعة في نيويورك قبل شهر مع أردوغان لدفع عجلة المصالحة، فالشركات الأمريكية والإسرائيلية التي تملك حقول الغاز لا تستطيع ان تستثمر أموالًا طائلة لتطوير حقول الغاز دون ان تضمن سوقًا للغاز المستخرج، وهي كانت بحاجة ماسة لضمان الوصول إلى السوق التركي وإلى أسواق أوروبا لكي تستطيع تجنيد الأموال اللازمة لتطوير حقول الغاز.
وعن أهمية الغاز والجوانب الاقتصادية الأخرى في التوصل للاتفاق كتب البروفيسور درور زئيفي، محاضر في الجامعة العبرية وعضو في "منتدى التفكير الاقليمي"، أن "حجم التجارة بين تركيا وإسرائيل يبلغ اليوم نحو 6 مليار دولار، حيث أصبح ميناء حيفا في السنوات الأخيرة رصيفًا أساسيًا للبضائع التركية في الشرق الأوسط، فكل يوم، بعيدًا عن ناظر الجمهور، تصعد عشرات الشاحنات المليئة على السفن في تركيا، وتنزل في حيفا وتتدحرج من هناك إلى الأردن وإلى العراق. أما الطاقة الكامنة المستقبلية فأكبر بأضعاف. إن العنصر الاقتصادي الأهم هو بالطبع الغاز، بعض من الغاز الاسرائيلي مخصص للتصدير، ونقله في أنبوب عبر تركيا هو الامكانية الأرخص والأكثر ربحية، ولكن في العلاقة بين الدولتين توجد فضائل اقتصادية أخرى؛ فاقتصاداهما يكملان الواحد الآخر أيضًا في التكنولوجيا العليا، في الصناعة، في الزراعة وفي السياحة، وسيدفع استئناف العلاقات إلى الأمام بشكل كبير تحقق هذه الطاقة الكامنة المستقبلية، وسيساعد على تقدم الاقتصادين في وضع لا تبدي فيه السوق المحلية والعالمية دينامية زائدة"