يُقال أن المنتصر هو من يكتب التاريخ , فمن ينتصر في معركة أو حرب ومن يحسم الصراع لصالحه هو الذي يُسّجل في سفر التاريخ ما يريد ذكره من أحداث ومعلومات , فيضع رؤيته الخاصة للأحداث وتفسيره لها , وقد يتجاهل أحداثاً جوهرية ومهمة فيحذفّها أو يشّوها , وقد يُضّخم أحداثاً ثانوية تافهة فيبرزها أو يُجمّلها . فالرواية التاريخية إجمالاً تُكتب من وجهة نظر الذين غلبوا على أمرهم من الحكام وأصحاب السلطة والقرار ومن وافقهم ونافقهم من المؤرخين والكتاب وأصحاب القلم , أو الذين قهروا عدوهم وانتصروا عليه في ميادين المعارك والحروب من الدول وأنظمتها السياسية ونخبها الحاكمة ومن دار في فلكهم واتبع خطاهم , فلقد قال أحد جنرالات الجيش الأمريكي من الذين أشرفوا على قصف اليابان بالقنابل الذرية , مؤيداً مقولة أن المنتصر هو من يكتب التاريخ " لو لم تكسب الولايات المتحدة الحرب لحوكمنا كمجرمي حرب " .
وهذه المقولة تنطبق على معظم أحداث التاريخ المكتوبة , فعلى سبيل المثال في مناهج التاريخ المصرية التي درسناها في السابق حول ثورة 23 يوليو 1952 لم تذكر اسم ( محمد نجيب ) كأول رئيس للجمهورية المصرية بعد الإطاحة بالملكية ,وبعد عزله من الضباط الاحرار , وذكرت بدلاً منه اسم الرئيس ( جمال عبدالناصر ) , ولم نعرف هذه الحقيقة إلا متأخراً بعد المدرسة , وامتلأت هذه الكتب تمجيداً بالضباط الأحرار وتشويهاً لنظام الحكم الملكي السابق , والسؤال هو ماذا لو فشلت حركة الضباط الأحرار في الاستيلاء على الحكم ؟ كان بالتأكيد سيتم اعدامهم رمياً بالرصاص كخونة , وسيسجل التاريخ حركتهم وأسمائهم بطريقة عابرة كخونة ! , ولنأخذ أمثلة أخرى من عمق التاريخ لنتساءل ماذا لو انتصرت دول المحور – ألمانيا وايطاليا واليابان – على الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ؟ من كان سُيحاكم ويسجله التاريخ كمجرم حرب ؟ ! , ومثال آخر ماذا لو انتصر الإمام علي – كرّم الله وجهه – رابع الخلفاء الراشدين في معركة صفين ؟ ماذا كنا سنقرأ في التاريخ عن الأمويين ؟!
ولنعد إلى تاريخنا المعاصر , وبالتحديد إلى الانقسام الفلسطيني , لنطرح نفس السؤال وهو ( من سيكتب تاريخ الانقسام ؟ ) , ومن ستكون له الغلبة في ذكر روايته من طرفي الانقسام ؟ , أم ستكون هناك رواية تاريخية محايدة للانقسام , فهناك وجود لروايتين مختلفتين على كل شيء تقريباً ابتداءً من تسمية الانقسام ما بين الانقلاب والحسم , وانتهاءً بتسمية حكومة غزة بعد الانقسام ما بين الحكومة المُقالة والحكومة الشرعية , مروراً بتسمية ترك مقاعد العمل في مؤسسات السلطة بغزة ما بين الاضراب والاستنكاف , فضلاً عمن يتحّمل المسؤولية في حدوث الانقسام نفسه ... وبغض النظر عن الحق والباطل , وعمن يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية , وعن دور اتفاقية اوسلو المهم في حدوث الانقسام , فالاختلاف حول الرواية التاريخية للانقسام قد تكون اضافة جديدة لمفردات الانقسام , وقد تكون نوعاً من الانقسام الجديد الذي ينتظر من ينفخ في رماده ليشعل النار من جديد , وهذا يذكّرني بحكاية مشابهة من المفيد ذكرها .
يُروى أن أستاذين جامعيين ينتميان إلى قبيلتين مختلفتين كانتا في السابق على عداءٍ شديد بينهما ناتج عن حرب ضروس طحنتهما بفكيها دامت عقوداً من الزمن وتخللها عمليات قتل ثأرية متبادلة . سببها أن شيخي القبيلتين تراهنا على كلب الشيخ الأول إن كان يستطيع أن يقفز عن حائط ما دون أن يلمس ذيله حافة الحائط , فقفز الكلب على الحائط , ولكن الشيخين اختلفا حول ما اذا كان ذيل الكلب قد لمس حافة الحائط أم لا ! , فتنابذا ثم تشاجرا فشج أحدهما رأس الآخر , فكان ذلك إيذاناً ببدء الحرب بين القبيلتين لعقودٍ من الزمن قبل أن تتصالحا . فجلس الأستاذان الجامعيان مرة في مقصف الجامعة يتحدثان عن مدى تخلف قبيلتهما ويعددان مساوئ العادات القبلية الثأرية التي ذهبت بحياة العشرات من خيرة شباب القبيلتين , ويضحكان من ( قلة عقل ) شيخي القبيلتين , ومدى ( استخفافهما ) باتباعهما من أبناء القبيلتين ... وبعد أن انتهيا من الضحك قال أحدهما : " ولكن الحقيقة أن ذيل الكلب قد لمس حافة الحائط فعلاً " وسرعان ما رد عليه الآخر غاضباً . " لا , هذه ليست الحقيقة , فالحقيقة أن ذيل الكلب لم يلمس حافة الحائط " فاختلفا وعلا صوتهما , فتبادلا الشتائم بالكلمات وتبعها تبادل اللكمات , ثم تطايرت الصحون في الهواء وتكسّرت القناتي على الرؤوس , فكان ذلك إيذاناً ببدء حرب قبلية جديدة .


