عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلاةِ وَيَقُولُ : ( اسْتَوُوا , وَلا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ ) رواه مسلم (432 ) .
أعتقد أن الإستواء بين يدي الله هنا ، أعمق و أبلغ من أن يكون مجرد إستواء القامة و إعتدال البدن في الوقوف للصلاة ، و ربما لهذا أكمل الرسول بالقول : ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ..
الإستواء ، هو كما يقال بالدارجة " عين العقل " ، هو الرجاحة .. هو أن لا تميل لا في بدن و لا راي و لا موقف يميناً أو يساراً .. و يبدوا لي ، بكل تواضع ، أن الرسول عليه الصلاة و السلام إنما اراد بذلك أن يضع لنت منهجاً للحياة ، و كيفية تناول الأشياء ، و التهيئ لها بداية من الوقوف بين يدي الله ، للصلاة ، و نحن في كل أحوالنا بالطبيعة بين يدي الله تعالى في عملنا و رقودنا و دراستنا و سفرنا و ترحالنا و في صحتنا و مرضنا و في حربنا و سلمنا ، ولا يجب أن تختلف ، و نتفرق و نترك للشيطان بيننا فرجاً و ثغرات ، ليضخم أهواءنا و يلوث أفكارنا ، حتى و إن كانت الهيأة للصلاة ..
الحقيقة أن هه الكل البسيطة التركيب ، اللذيذة النغمة عند النطق ، عميقة المعاني و دفعتني إلى التفكير في قضية لا يبدو لي أن فيها إستواء ، بل فيها إعوجاجاً واضحاً ، و مخيفاً ، وهي : كلمة " إسلامي" التي أصبحت رائجة ، و مُرَوَّجه ، و مُربحة ، و مُصَدَّقة لدى الجمهور الواسع لأمتنا العربية و الإسلامية ، فقد تمّ إلصاق و تلفيق هذه الصفة ، اللقب ، العلامة التجارية ، إلى كل شئ و اي شئ ، بداية من ( النظام السياسي الإسلامي ) و البنوك الإسلامية ، و الإقتصاد الإسلامي ، و المدارس و المعاهد الإسلامية ، و المطاعم الإسلامية ، و مكتب التاكسيات الإسلامي ، و صولاً إلى المايوه الإسلامي ..
ولعل بعضاً من العناوين السابقة ، حازت على بريق من نوع خاص ، و خلقت على أرض الواقع مؤسسة لها ، و تحولت من كونها نظرية جافة ، أو مذهب فكري إلى واقع ملموس و يتعامل به وهي الإقتصاد الإسلامي ، و هنا لابد أن نقف مطولاً عند السيد العلامة الإمام محمد باقر الصدر صاحب كتاب ( إقتصادنا ) الذي شرح فيه بالتفصيل ماهية الإقتصاد الإسلامي ، طبعاً قبلهُ كان للعلامة الكبير إبن خلدون طرحاً وافياً في هذا الصدد ، والإمام العز ابن عبدالسلام ، و غيرهم كثير من القدماء و المعاصرين من المفكرين الذين حاول بعضهم أن يستخلص نظريةً حاكمةً جامعةً مانعةً ثابتةً ، إسلامية صافية ، و غيرهم ممن حاول أن يولف و يلفق و يرتق هنا أو هناك ، و يستخرج مولوداً هجيناً يسميه في النهاية ( الإقتصاد الإسلامي ) ، و في رأينا أن هذا و ذاك ، كلاهما مُجتهد ، و من أنا لأناقش قامة مثل إبن خلدون ، أو قامة مثل محمد باقر الصدر ، رحمهما الله ، و لكني أستطيع أن أستشير عقلي ، و أقول ما يقول فهمي ، بأن كل هذا الإجتهاد لم يغير من حقيقة أن ما يطرحون هو منهاج بطعم آخر في الإقتصاد ، و لا يمكن أن يكون المنهج الإسلامي – بألف ولام التعريف – لسبب بسيط جداً وهو أن للإسلام أحكاماً لا نظريات ، فكل ما يقبل الجدل ، و النقاش ، و التمذهب و الرأي و الرأي الآخر ، ليس ديناً ، إلا لمن إتبعه لغاية في نفسه ، عليه وزره وله حسناته ، و عليه نتائجه من مكسب أو خسارة ، أما الإسلام فلا يقبل الخطأ وهو الصواب ، و ليس نظرية يُتجادل فيها أو عليها .. و كل متغير رأي و مذهب ، و كل ثابت دين و معتقد ، وحاشى لله أن يجادل في حكمه ، إن وجد في التنزيل من القرآن الكريم ، أو في ما صح من الرواية .
كذلك الحال فيما يتعلق بما أثخنت به آذاننا في العقود السالفة ، من دولة الخلافة ، و الحكم الإسلامي ، و دولة الإسلام ، و غيرها من التعبيرات و التأويلات و التلفيقات .. و إبتداءً علينا أن نقر و نعترف ، و نفهم و نعقل ، و نهجع و نترك التزييف و النعرة الكاذبة ، بأن الخلافة نفسها ، شكلاً و مضموناً هي نسق و نظام إداري سياسي ، غير إسلامي أصلاً ، هي نظام تم تقليده ، لا علاقة له بالدين ، فتعريف نظام الخلافة أساسا هو تعريف زرادشتي ، وتعريف ساساني ، أراد العرب و الصحابة فيما يبدو ، إقتباسه بعد وفاة الرسول عليه الصلاة و السلام ، حيث واجهتهم أزمة لم يخبروها من قبل ، و لم يمارسوها من قبل ، فقد ظلت مفاهيم القبلية ، و ربما التوريث الملكي هي السائدة عند العرب أحقاباً كثيرة ، إلى أن جاء الإسلام و قلب المفاهيم و النظم ، و جعل للشعب قيمة و راي و مشورة ، فكانت الطريقة الفارسية التي إبتدعها أردشير بن بابك ، هي الأقرب للوضع المعاش و الذي يمكن أن يتسق وواقع الحال الجديد في دولة العرب الأولى، حيث أُريدَ منها نيابة عن صاحب الشرع عليه الصلاة و السلام ( في حالتنا كمجتمع مسلم) في سياسة الدنيا ، وحراسة الدين . ثم تطور الأمر بعد ذلك ، ولم تكن يوماً " الدولة " تحمل صفة " إسلامية" و لم تكن تحتاج أصلاً لهذه البدعة ، حيث أدرك السابقون السابقون ، رضوان الله عليهم ، أن الإسلام دين ، و هو ثابت بينما الحكم و الإدارة و السياسة و الدولة ، متغيره ، وقد رأو أمثلة حولهم ، تعلموا منها و فهموها مثل الزارات أو الدواوين المتخصصة التي أنشأها الخليفة الفارق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، و هي منهج في الحكم و إدارة الدولة في فارس أيضاً،و هناك العديد من الأمثلة ، و الحقيقة أن الدولة نظام متغير ، و ليس ثابت ،حتى في أوروبا أثبتت أنها متغيرة عبر العصور ، و الحكم في بلاد المسلمين أيضاً ، متغير ، و يجب أن نقف هنا لنتأمل الواقع ، فدولة الرسول عليه الصلاة و السلام ، والتي هي بلا شك لها قسمات و صفات نوعيه ميزتها بشكل فريد ، فهي دولة يُنَزّل فيها الوحي ، و يتم بناء الدين و الحكم ، و الإنسان و المجتمع، ثم هناك دولة الخلافة الراشدة التي بدأت تدير ما نتج عن الدولة الأولى ( دولة النبوة) و الإدارة هنا لم تكن إسلامية ولا دينية ، بل إستفادت باشكال و أدوات كثيرة مارستها نظم ودول جاره ، كالفارسية المجوسية و الروم المسيحية و غيرها ، بني على كل هذا شكل أكثر تطوراً فكانت دولة المُلك العضوض التي اسسها معاوية ، ثم هناك بعد ذلك دولة السلطان أو السلطنات ، فشكل نظام الحكم عند المسلمين ، متغير ، و غير ثابت ، تارة إمبراطورية واحدة موحده فدرالية ، و تارة ولايات متحدة ، لكل ولاية منهجها بل و مذهبها الخاص ، وعلى كل فكل هذه الساليب و النظم مقتبس و يتم تطويرة و تدويره و تشكيله وفق تطور الحياة و المتطلبات المحيطة ، و هذا يعني أنه ليس " حكماً " و ليس " أنموذجاً " ثابتا لا محيد عنه .. و علّ ما يشاع من فهم خاطئ حول مفهوم الآية أربعون الكريمة في سورة يوسف (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) . صدق الله العظيم ، و حتى بمراجعة ما ذهب إليه كبار من العلماء ، تجد أن بعضهم يلوي عنق الحقيقة ، و يفسرها بطريقة تتماهى مع أهوائه السياسية ، فالحكم هنا لا يمت من قرب أو بعيد للحكم بمعني الحاكمية أو الإمارة و السلطة و الدولة و الجهاز التنفيذي و الإداري للدولة ، بل هو للفصل بين الناس في القضايا ،فالحكم هنا ـ يراد به القضاء ، و العدل و القسط بين الناس ، و هذا واضح في قوله تعالى في سورة الحديد آية25 (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) صدق الله العظيم .
وعليه ، فإن موضوع التشريع و الحكم ، و تفسيراته التي تتبناها تيارات فكرية ، لا تعترف بالمتغيرات المجتمعية ، و تتذرع بأن الحاكمية هي لله فقط ، و لا يجوز للشعب أن يحكم أو يختار صيغة حكمة ، أو شكل نظامه ، و المذهل أن هذا ما ذهب إليه أبو الأعلى المودودي و سيد قطب رحمهما الله ، بأن الحكم لله ، أن يكون حاكماً ( Governor) . وهذا غير صحيح ، فالحاكمية لله ببساطة شديدة تعني السلطة القضائية ، و ابداً ليست السلطة التنفيذية .
هذا الإلتباس و هذا الخلط ،بقصد أو بغير قصد ، الذي تمارسه بعض الفرق و الأحزاب و التيارات المعاصرة ، و الآنية في حياتنا ، هو ذاته ، هو ما وقع فيه الخوارج الأوائل ، و كَفَّروا بِمُوجبه الإمام عليٌ بن ابي طالب كرم الله وجهه ، و أتباعه ، بنفس الطريقة من الخلط و التلبيس ، و الفهم الخاطئ لآيات الله . فحين قالوا إن الحكم إلا لله ، أجابهم الإمام علي رضي الله عنه ( كلمة حق يراد بها باطل ) فهم يقولون لا حكم إلا لله ، بينما يريدون السلطة التنفيذية المفوضة من الله !! و المسماه ( الدولة الثيوقراطية) الكهنوتية .
وحتى الخلافة كمفهوم ، هي نظام ، لإدارة السلطة ، تطور و إختلف بإختلاف الخلفاء ، فبيست خلافة أبو بكر رضي الله تعالى عنه كخلافة الفاروق عمر رضي الله عنه ، و لسيت الخلافتان كخلافة و طريقة إدارة و سياسة عثمان ذي النورين رضي الله عنه ، الخلافة هي في الأصل نظرية ، مفهوم و أسلوب مستورد من ثقافة لا تنتمي لللإسلام باي شكل من الأشكال ، هي نظام تم تقليده ، لا علاقة له بالدين ، فتعريف نظام الخلافة أساسا هو تعريف زرادشتي ، وتعريف ساساني ، أنها أو أُريدَ منها نيابة عن صاجب الشرع عليه الصلاة و السلام ( في حالتنا كمجتمع مسلم) في سياسة الدنيا ، وحراسة الدين ، وهذا فهم فارسي ، أردشير إبن بابك ، هو الذي قال هذا بالضبط . وبما أن مصادر التشريع و القوانين في كل الدول العربية و العالم الإسلامي يرتكز على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع ، و كافة الأحوال المدنية من زواج وطلاق و أسرة و ميراث و غيرها تطبق حسب الشريعة ، فاين هي إذن المشكلة ؟ هل هي فقط الرغبة في الحكم السياسي ؟ الإمارة ؟؟
أطلت عليكم ، و لكن يبدوا للأسف ظهر لي إن إسترخاص و إبتذال و إلصاق صفة " إسلامية" بكل شئ ، هو بذات سخافة و بشاعة و إفتراء تسمية المايوه الإسلامي أو الشرعي .. إستووا يرحكمكم الله ، و لا تتركوا للشيطان ثغرة ، حتى في الصلاة . إستووا ....


