إذا أردنا أن نفهم سبب كل هذه الدماء في العالم العربي علينا أن نعود لنشأة الدولة العربية وتطور علاقتها بالإنسان العربي. المقارنة هنا مع نشأة الدولة الأوروبية وعلاقتها بمواطنها ستكون مفيدة.
باستثناء مصر وتونس، ما تبقى من الدول العربية لم تعرف عصر الدولة في شكلها الحديث إلا بعد رحيل الاستعمارين البريطاني والفرنسي منها قبل ستة عقود تقريبا.
مصر وتونس استثناء. الأولى تشكلت فيها الدولة بمعناها الحديث في عصر محمد علي باشا بداية القرن التاسع عشر، والثانية كان لديها نوع من الاستقلال الذاتي عن الإمبراطورية العثمانية منذ القرن السابع عشر. كلتا الدولتين على أية حال حُرِمتا من بناء اقتصاد ومؤسسات مستقلة بعد الاحتلالين البريطاني والفرنسي لهما.
ما تبقى من الدول العربية لم تعرف شكل الدولة الوطنية الحديثة، بل إن وجودها كدول مستقلة كان بفضل الاستعمار الذي اقتسم الإمبراطورية العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى.
في أوروبا، الدولة الوطنية تشكلت بفعل ثلاثة عوامل: الحروب، التجارة، الأيديولوجيا. الحروب ساهمت بقيام سلطات مركزية قوية تمكنت من توسيع سيطرتها الجغرافية على حساب ما كان يعرف حينها بالدوليات. التجارة ساهمت بدورها في القضاء على النظام الاقتطاعي وعلى فكرة الإمبراطورية كمؤسسة للحكم. تطور التجارة والاعتماد عليها كمصدر رئيس لتجميع الثروة ساهم أيضاً في اتساع الحروب ومع الحروب جرى استحداث مؤسسات جديدة لتجميع الضرائب وفرض الأمن. ومن الطبيعي أن يكون هنالك دور للأيديولوجيا في كل ذلك، حيث لا توجد سلطة مركزية يمكنها أن تحكم طيلة الوقت بالحديد والنار، لذلك ترافق ظهور الدولة المركزية في أوروبا واتساع بعض المراكز على حساب الدويلات، مع فكرة العقد الاجتماعي-. السلطة المركزية عليها واجب حماية أفرادها مقابل ما يقدمونه لها من ضرائب. الأيديولوجيا أعطت الدولة صفتها الشرعية.
اتساع قدرات السلطة المركزية ومؤسساتها، سعيها لاحتكار القدرة على ممارسة العنف المنظم، والشرعية التي تتمتع بها، لم يكن بحد ذاته كافياً لتشكيل الدول الأوروبية لأن السلطة المركزية تحتاج الى أرض بحدود واضحة حتى تمارس سلطتها عليها. الدول الأوروبية بشكل عام هي وليدة حرب استمرت ثلاثين عاما وانتهت باتفاق سلام ويستلافيا العام 1648 الذي رسم الحدود بين الدول الأوروبية.
قيام الدولة الوطنية في أوروبا كما نلاحظ كان وليد تطور طبيعي سبق قيام الأُمة. الدولة-الأُمة، بمعنى الدولة التي يشعر مواطنوها بالانتماء لها هي أيضا نتاج عملية تاريخية: سعي من الدولة لتكريس انتماء أفرادها لها عبر بناء هوية جامعة لهم، وصراع ممن هم خارج مؤسسات الدولة للمساواة في الحقوق. كلا المسارين أفضيا في النهاية الى اضمحلال الهويات الفرعية: القبيلة، الطائفة، المنطقة ليحل مكانها الانتماء للدولة.
هذا الانتماء مرتبط بحقوق سياسية ومدنية واجتماعية. بدونها لا معنى للانتماء للدولة. لا معنى لما يسمى بالدولة الأُمة. بدون هذه الحقوق تتحول الدولة كما يقول بيتر إيفان الى حيوان مفترس ومن الطبيعي في حالة كهذه أن لا يشعر أحد بالولاء للدولة أو بالرغبة بالانتماء لها.
الحقوق المدنية في الدولة الأوروبية سبقت السياسية، وانتهت بالحقوق الاجتماعية. الحق في التملك، في إبداء الرأي، في المعتقد، في أن يعيش الفرد كما يريد سبقت حصوله في الحق على المشاركة في الحياة السياسية وفي تكوين الأحزاب وفي التنافس على الحكم. هذه بدورها سبقت ظاهرة دولة الرعاية الاجتماعية: الدولة التي تقدم الخدمات الصحية المجانية، بدل البطالة، وشبكة من أنظمة الحماية الاجتماعية. بمعنى أن فكرة الانتماء للدولة الجامعة التي توفر الحريات المدنية والسياسية سبقت نظام الحماية الاجتماعية. الأخيرة قامت فقط بتعميق هذا الانتماء. الدولة بوجود قانون يطبق على الجميع بالتساوي من رئيس الجمهورية الى عامل المصنع تحولت الى مكان يشعر فيه الجميع بأن حقوقهم وكرامتهم مُصانة أكثر في الدولة من القبيلة أو الطائفة لذلك يمكن للكنديين مثلاً أن يعيشوا بسلام مع بعضهم البعض على الرغم من أنهم مهاجرون من أكثر من مائة دولة، ويؤمنون بالعديد من الأديان أو حتى لا يؤمنون بأي دين.
الدولة في العالم العربي مُختلفة تماما وهذا الاختلاف في المنشأ والجوهر هو سبب هذا الحجم من الدماء التي تُزهَق بدون معنى.
ليس الولادة غير الطبيعية للدولة العربية هي المشكلة. بمعنى أن تقسيم سايكس-بيكو الذي جعل من العلويين أقلية في سورية ومن السنة أقلية في العراق ووزع الأكراد على أربع دول وأسس للنظام الطائفي في لبنان من ضمن أشياء عديدة أخرى ليست السبب الأساس. جميع الدول الأوروبية تواجدت فيها أقليات عرقية ومذهبية لحظة التكوين وما بعدها.
يرغب البعض دائماً بغسل اليد تماما وتحميل الآخرين مسؤولية الكارثة التي يعاني منها العرب. لكن هذا المنطق لا يصمد أمام الحقائق.
على خلاف الدولة الأوروبية جميع من حكم في الدول العربية منذ الاستقلال بنى شرعيته السياسية باعتماد سياسة توفير الخدمات الاجتماعية والأيدولوجيا. توفير العمل والرعاية الاجتماعية بحدودها الدنيا بالطبع لعدم وجود الموارد الكافية، كان مصاحباً لفكرة القومية العربية وفي القلب منها تحرير فلسطين أو بصلة قرابة تعود عبر الأجيال للرسول محمد(عليه السلام).
الحقوق المدنية والسياسية لم تسع الدولة ونخبها الحاكمة لتأمينها. بل إن جوهر مقاربتها كان الحصول على الشرعية أو على الأقل على صمت المحكومين مقابل رزمة الخدمات التي تقدمها. الأيديولوجيا ربما خدمت جمال عبد الناصر لبعض الوقت لكنها سقطت بعد هزيمة العام ١٩٦٧. بخلاف ذلك لم تصدق أو لم تؤمن الغالبية بالأيديولوجيا كما طرحها حكام آخرون.
الحقوق المدنية والسياسية تم الصراع عليها أو من أجلها ممن هم خارج السلطة. لكن المشكلة في هؤلاء أن فهمهم لهذه الحقوق لم يكن في إطار السعي لتحقيق مواطنة جامعة. التيار الإسلامي بأنواعه المتعددة قدم فهما لهذه الحقوق كان من نتيجته تعميق الهوية الطائفية على حساب الدولة. الشيوعيون العرب هم أصلا لا يؤمنون بالدولة، لذلك لم تكن لهم مساهمة في هذا الصراع. الأنظمة العربية لعبت على الخلاف بين الإسلاميين ومعارضيهم. عندما كانت تريد إضعاف اليسار، كانت تتبنى تفسير التيار الإسلامي للحقوق المدنية. جميعنا يؤكد مثلا أن السادات هو من أضاف فقرة "الشريعة المصدر الرئيس للتشريع" في الدستور المصري العام 1971. وعندما كانت تريد الدولة البطش بالإسلاميين كانت تتبنى مواقف ليبرالية.
بشكل مختصر لا الدولة ولا المعارضة سعتا لبناء هوية جامعة لمن يسكن دولهم. الأولى بنت شرعيتها عبر تقديم الخدمات والثانية بنت هويات جانبية لحرمان النخب الحاكمة من الشرعية.
الخصخصة أو ما يسمى بالليبرالية الاقتصادية منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي أجهزت على شرعية الدولة العربية. بغياب مصادر دخل للدولة لتأمين الخدمات الاجتماعية متلازما مع فساد غير مسبوق للنخب الحاكمة وتحول الدولة تبعا لذلك الى دولة مفترسة، اختفت مع هذا التحول شرعية الدولة، أصبح الناس أكثر اعتماداً على عائلاتهم الممتدة لتأمين انفسهم معيشياً، وفي ظل غياب القانون على تأمين حياتهم أيضا، وأصبحوا أكثر أعتماداً على طوائفهم، وعلى أحزابهم سواء تلك الحاكمة أو تلك التي تستطيع توفير مصادر دخل مثل التيارات الإسلامية، أضف لذلك الضخ الإعلامي الطائفي لأسباب داخلية وإقليمية. كل ذلك أدى لتكريس ظاهرة الهويات الفرعية على حساب الانتماء للدولة، وبالتالي أصبح من السهل خوض حروب حتى لو أدى ذلك الى سقوط الدولة ونهايتها، لأنها في نهاية المطاف لم تعنِ الكثيرَ لمن يسكنها.


