بدأ الحراك السياسي الدولي اذن مبكرا في القدوم، والخير هو في الابكار إزاء انتفاضة تبدو هي الأخرى على شاكلة مادتها وابطالها من الشباب، عجولة ومسرعة لا تعرف الهوادة والانتظار . والمسألة ليس كما يردد البعض بيننا من لا يزالون يفكرون في الاطار والقالب النمطي القديم , ان جون كيري والفرنسي والنيوزلندي والرباعية ومجلس الامن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة، كل هذا الجمع قلق او خائف على إسرائيل المتغطرسة والحمقاء، وانما لانهم جميعا في كل اصقاع الأرض ملوا من هذه الاسرائيل ويريدون اليوم معاقبتها على وقاحتها.
هذه هي المسألة اذ قل لي ماذا تساوي إسرائيل اليوم في منظومة المصالح الرأسمالية وهي التي اخترعتها ؟ وأقول لك ان الجواب صفر . والمسألة أيضا ولا زلنا في نقد التفكير النمطي انهم يتكالبون في مؤامرة غامضة ومعادة لاجهاض هذه الانتفاضة مرة أخرى والالتفاف عليها من لدن هؤلاء الأشرار والخبثاء الدوليين انفسهم , وهو رأي يضعف من حجته ملاحظة ان توني بلير ليس موجودا اليوم في الصورة , وانما لسببين :
الأول ان هذه الهبة او الانتفاضة غير الفصائلية جاءت في اسلوبها الشعبي وكانها على المقاس , الذي كان هذا المجتمع الدولي بحاجة اليها لكيما يلتقط هذه الفرصة , ويعاود الهجوم بشراسة هذه المرة على الرجل العاق والشرير الذي اهان الامبراطور في وقت سابق ووزير خارجيته جون كيري . اما السبب الثاني فهو ان الإنجاز الحقيقي والكبير حققته الانتفاضة حتى هذا الوقت وفي زمن قياسي، حينما رسمت بنفسها الطريق القصير ولكن المستقيم الذي يحدد المسافة بين المنطقة « أ « و « ب « , وعزلت منذ البداية في تحديدها لديناميكيتها الخاصة قدرة أي طرف التشويش عليها او احتوائها .
هذه انتفاضة عبقرية تستمد نظريتها او ذكاءها الجمعي من كونها تقترن في اندلاع ثورتها منذ اللحظة الأولى بفاتورة حسابها، ولا مجال هنا للتكهن او الجدل الفكري والسياسي حول المصير الذي تطرحه، وهو بالمحصلة غير قابل للمساومة: اما انتهاء الاحتلال اليوم، وضع وإقرار نهاية الاحتلال في جدول اعمال اليوم , «امر اليوم» على اجندة العائلة الدولية . او هو الخراب العظيم.
فهل لهذا السبب الشعور بالمأزق الحاد رأينا الرجل كيف يفقد عقله وصوابه , الى ان يهدم بنفسه وفي لحظة من اليأس احد اكبر الأعمدةر التي قامت عليها دولة إسرائيل نفسها، ليبرىء النازية وادلف هتلر من دم اليهود وكل ذلك من اجل ان يقول للعالم ان الفلسطينيين هم الشر الأكبر، كما قادتهم منذ الحاج امين الحسيني حتى أبو مازن . هل كان الاعتدال الفلسطيني عند هذه اللحظة هو اقوى من كل أسلحة إسرائيل ؟ وكانت هذه هي العبارة التي سوف يسجلها التاريخ باعتباره البطاقة التي تؤشر الى هزيمة إسرائيل . كان الرد صاعقا وسريعا ولم يتأخر من قبل أمريكا وألمانيا بكلمة واحدة : اخرس.
خمس ساعات في برلين بين جون كيري والرجل الذي لم يكلف نفسه كيري الذهاب لمقابلته في إسرائيل , بل بدا الامر وكانه تم استدعائه لابلاغه بالقرارات . ولم يتردد البيت الأبيض بعد اجراء هذه المقابلة ان يصدر بيانه الشديد ردا على أقواله عن المحرقة , بدعوته التوقف في خطابه عن مثل هذه الاستفزازات.
دعونا اذا نقرأ الحقائق الجديدة تتبلور اليوم على سطح الاحداث في هذا الشرق , والسؤال المطروح في زحمة تكون هذه الاحلاف بين أميركا وروسيا واللاعبين الإقليميين , اين موقع ودور إسرائيل بين هذه الاحلاف ؟ وربما تشير هذه المفارقة او الدلالة في انعقاد رباعيتين في العاصمة فيينا الأولى , مخصصة لتسوية الازمة السورية، والثانية لتسوية الازمة الفلسطينية الإسرائيلية . وانعقاد جلستين لمجلس الامن الدولي في وقت متزامن على مستوى وزراء الخارجية لبحث الازمة السورية والفلسطينية الإسرائيلية، الى هذه الحقيقة وهو الترابط اليوم بين الاتفاق الدولي والإقليمي على إعادة ترتيب توازن القوى في عموم هذه المنطقة , بالتوازي مع حل القضية الفلسطينية .
فهل يمكن الاتفاق على تسوية الازمة المستعرة في سورية التي هي شمال فلسطين، وإبقاء جنوب سورية أي فلسطين كموقد النار المشتعل والذي يهدد طوال الوقت بحرق الجميع ؟.
نحن اليوم ما بعد الاتفاق النووي الإيراني وما بعد الاعتراف بالتدخل العسكري الروسي في شؤون المنطقة , وهذا هو الوضع الجديد الذي جاءت الانتفاضة الفلسطينية الثالثة للتساوق او التفاعل معه في ذروة التسويات الدولية والمحلية , لاخماد حريق التطرف الديني في المنطقة. وهذا بخلاف الانتفاضة الثانية زمن بوش الابن وتطرف المحافظين الجدد , حيث كان التطرف اليميني الإسرائيلي يتساوق مع التطرف الايديولوجي الأميركي نفسه، في العمل على إعادة التفكيك وخلق البيئة الاستراتيجية الملائمة للتطرف المذهبي والديني وبالتالي القضاء على الحلم الفلسطيني .
اما اليوم، فإن الوضع والصورة مغايرة تماما بالعودة الى إعادة التركيب والتجميع , والذي حدث ان بنيامين نتنياهو خاض حربه الأخيرة في القدس في التوقيت الخطا بينما العالم واميركا تحديدا تريد الخروج من ارث بوش الابن , ولا زالت تدفع ثمن التحول الذي حدث بالانزلاق نحو الحروب الاهلية الدينية .
اذا ليس لسواد عيوننا وشفقة علينا ، ولكن لان المشروع الإسرائيلي اليوم القائم على ادامة الاحتلال في الزمن والاستيطان , بات يمثل تهديدا استراتيجيا لمصالح الغرب , اذا كان التطرف الديني اليميني الايديولوجي للاستيطان هو الذي يجب كبحه الاّن، وانطلاقا من القدس حيث المسجد الأقصى اقدس اقداس المسلمين , وهو يعني بان الاستجابة لمطالب الفلسطينيين اليوم هو جزء من الحرب الاشمل التي تدور رحاها في سورية والعراق ضد التطرف الديني , وفي المعركة الدبلوماسية الكبرى على تقاسم النفوذ بين أميركا وروسيا على حد سواء .


