ابوظبي – جمال المجايدة - نظَّم مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ضمن أنشطته وفعالياته العلميَّة والثقافيَّة المتنوعة، محاضرة بعنوان "تحديات الدولة المدنية في العالمين العربي والإسلامي: رؤى من كتاب السراب"، ألقاها الكاتب الإماراتي راشد صالح العريمي، المستشار الإعلامي في "ديوان ولي عهد أبوظبي"، بحضور نخبة كبيرة من المسؤولين والدبلوماسيين والأكاديميين والإعلاميين .
تطرق المحاضر إلى مفهوم الدولة المدنية، وذكر أن هذا المفهوم ليس منتوجاً سياسياً فقط، بل هو منتوج متعدد المشارب، فهو سياسي وثقافي ومعرفي، وغير ذلك. وذكر أن تاريخ نشأة مفهوم الدولة المدنية يعود إلى تاريخ طويل، حيث تحدث عنه الفلاسفة في أوروبا. وبدأت فكرته تتبلور مع ظهور فكرة "العقد الاجتماعي"، على يد الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. ومع قيام الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر وصلت الدولة المدنية إلى الحكم.
وتطرق العريمي إلى بعض المفكرين العرب الذين تناولوا مفهوم الدولة المدنية، كحسن حنفي، الذي قال: إن الدولة المدنية تقوم على تعددية القوى السياسية، ومنطق التفاهم، وثقافة الحوار، وثقافة التسامح، ومبدأ المواطنة، ونظام الحكم فيها يقوم على الديمقراطية، والشعب هو مصدر السلطات، ووسيلة تعبير الشعب عن رأيه تكون من خلال الانتخابات، مع ضمان الحرية للناس في إطار القانون. وفي الدولة المدنية لا يحكم رجال الدين أو العسكر، ما يعني أنها ليست دولة دينية ولا دولة عسكرية.
وذكر العريمي أن الدول العربية لدى محاولتها بناء الدولة المدنية مرت بثلاث تجارب فاشلة: كانت التجربة الأولى بعد الاستقلال في منتصف القرن العشرين، حيث اتخذت الدول التي تم بناؤها آنذاك أشكالاً متعددة، وجميعها أخفقت في تحقيق ما هو منشود منها. وكانت المحاولة الثانية، لدى نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، حيث شهدت مناطق عدة في العالم تحولات في هيكلية الدول، وتوجهها نحو صيغة الدولة المدنية، كما حدث في أوروبا الشرقية، لكن الدول العربية نأت بنفسها عن هذا التحول. أما المحاولة الثالثة، فقد جاءت مع اندلاع أحداث ما يسمى "الربيع العربي"، لكن التجربة بدورها فشلت وتحولت إلى حروب أهلية، ومطية لجماعات الإسلام السياسي.
وعند تطرقه إلى تحديات بناء الدولة المدنية في العالم العربي، ذكر العريمي أن أهم هذه التحديات يتمثل في جماعات الإسلام السياسي، وأنظمة الحكم المحافظة، والروح "الوصائية" المسيطرة على المجتمعات والعقل العربي، وثقافة الإقصاء التي تتبناها الأنظمة الحاكمة في بعض الدول. وذكر العريمي أن جماعات الإسلام السياسي تسعى إلى أسلمة المجتمعات، ودمج الدين بالدولة، من خلال تبنّيها مفاهيم مغلوطة، بالرغم من أن مفهوم فصل الدين عن الدولة في إطار الدولة المدنية لا يعني فصل الدين عن المجتمع كما تروّج هي. كما أن هذه الجماعات لدى وصولها إلى الحكم فشلت في تقديم نموذج حكم مختلف عن سابقاتها، وذلك كما حدث في كل من تركيا وإيران ومصر وتونس، حيث برهنت هذه الجماعات على أنها جماعات تسعى خلف مصالحها.
ومن ثم انتقل العريمي إلى مستقبل الدولة المدنية في العالم العربي، وتساءل قائلاً: هل يعود العرب إلى النظم القومية؟ وأجاب بالنفي، مبرراً ذلك بأن النظم القومية فشلت في تجاربها السابقة في الحكم، وبالتالي، فإن البديل السليم، من وجهة نظره، هو الدولة المدنية، وتنحية الدين عن السياسة، وكذلك تنحية العسكر عن الحكم، والأخذ في الاعتبار أن الدولة المدنية هي العاصم من تفكك الدول العربية. وقال العريمي: إن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية لم تكن بعيدة عن تجارب بناء الدولة المدنية، بل نالت نصيبها من ذلك، ولدولة الإمارات العربية المتحدة تجربة مميزة في هذا الإطار، إذ إنها خطت خطوات كبيرة تجاه الدولة المدنية، ونجحت في التوفيق بين التراث والحداثة، وذلك بفضل قيادتها الرشيدة التي تؤمن بالدولة المدنية، ولا تخلط بين الدين والسياسة.


