العالم العربي هو منطقة تعددية تفتقر إلى التعددية -القدرة على إدارة واحتضان الاختلافات بطريقة سلمية. وبهذه الكيفية، أديرت شخصية الشرق الأوسط التعددية -السنة، الشيعة، الأكراد، المسيحيون، الدروز، العلويون، اليهود، الأقباط، الأيزيدون، التركمان ومجموعة من القبائل- منذ وقت طويل بواسطة القبضة الحديدية من الأعلى. ولكن، بعد أن أزلنا القبضات الحديدية من العراق وليبيا من دون وضع نظام جديد من الأسفل إلى الأعلى في مكانها، وحاول الناس إزالة هذه القبضات بأنفسهم في سورية واليمن، من دون وضع نظام "عش ودع الآخرين يعيشون" في مكانها، انفجرت في المنطقة حرب مخيفة يخوضها الجميع ضد الجميع.
كشف الاقتتال الدائر تماماً عن الكيفية التي فشلت بها 60 عاماً من القيادة الشرهة المستبدة في تلك المنطقة في مجالات التنمية البشرية وبناء المواطنة. وكان الإبقاء على حزمة العالم العربي كله، بخطوط حدوده المستقيمة الموضوعة بطريقة اصطناعية، قد تم بواسطة النفط والقوة الغاشمة. وفي هذا الحطام الأخير، يعود الناس مرة أخرى إلى الهويات الوحيدة التي يظنون أنها ربما تبقيهم سالمين: القبيلة، والطائفة. ويشكل ذلك مقياساً للمدى الذي وصلت إليه الأمور، حتى ان العديد من العراقيين السنة يفضلون الدولة الإسلامية المجنونة على القتال والموت من أجل حكومة يقودها الشيعة الموالون لإيران في بغداد. وفي الحقيقة، لم يسبق لي وأن رأيت الأمور بهذا السوء. وقد وضع محلل شؤون الشرق الأوسط، سايمون هندرسون، يده بدقة على هذا التفكك بشكل جيد في مقال نشر في صحيفة "وول ستريت جورنال" في آذار (مارس)، فكتب: "ليست الفوضى العنيفة في اليمن منظمة بما يكفي لتستحق أن تسمى حرباً أهلية".
يبدو أن المنظومة العقلية الأصولية هي التي تسود في كل مكان في الشرق الأوسط. وقد بث معهد أبحاث الشرق الأوسط شريط فيديو مؤخراً، تم تصويره في الشهر الماضي للشيخ أحمد النقيب، المحاضر في شؤون التعليم في جامعة المنصورة شمال القاهرة، والذي ينتقد فيه "داعش"، لكنه يضيف: "ما من شك في أنهم أفضل بكثير من الروافض المجرمين (الشيعة)، الذين يقتلون السنة بسبب هويتهم السنية".
يقدم أوتو شارمر، الاقتصادي في معهد مساشوستس للتقنية، والذي يعمل مع المجتمعات العالقة في الصراعات الدائمة، تعريفاً للخصائص الرئيسية للمنظومة العقلية الأصولية بنقيضها، فيتساءل: ما هو عكس العقل المفتوح؟ "أن تكون عالقاً في حقيقة واحدة". ما هو عكس القلب المفتوح؟ "أن تكون عالقاً في جِلدٍ جمعي واحد؛ كل شيء هو "نحن في مقابل هم"، وبذلك يكون التعاطف مع الآخر مستحيلاً". و، ما هو عكس الإرادة المفتوحة؟ "أن تكون مستعبداً للمقاصد القديمة التي تتأصل في الماضي ولا تشكل الحاضر، وبذلك لا تستطيع أن تنفتح على أي فرص جديدة".
إذا استمرت هذه العقلية الجامدة في السيادة، فإنك تستطيع أن تنعي مستقبل هذه المنطقة فحسب، عندما يكون هناك قدر أقل بكثير من النفط، وقدر أكبر بكثير من الأطفال، وقدر أقل بكثير من الماء. سوف يكون ذلك عرضاً غرائبياً.
في الوقت الراهن، لا أستطيع أن أرى سوى طريقتين فقط يستطيع بهما حكم ذاتي متساوق أن يعاود الظهور في ليبيا، والعراق، واليمن وسورية: أن تقوم قوة خارجية باحتلال هذه البلدان تماماً، وأن تطفئ حروبها الطائفية، وتقمع المتطرفين وتقضي السنوات الخمسين المقبلة في محاولة جعل العراقيين والسوريين واليمنيين والليبيين يتقاسمون السلطة كمواطنين متساوين. حتى ان ذلك يمكن أن لا يعمل. وهو لن يحدث على أي حال. والطريقة الأخرى هي انتظار أن تحرق الحرائق نفسها فقط. لقد انتهت الحرب الأهلية في لبنان بعد 14 عاماً بالمصالحة من خلال الإرهاق. وقبلت جميع الأطراف مبدأ "لا منتصر/ ولا مهزوم"، وحصل الجميع على قطعة من الكعكة. وهذه هي الطريقة التي تمكنت بها فصائل تونس من العثور على الاستقرار: لا غالب/ ولا مغلوب.
إننا لا نستطيع أن نتدخل بشكل فعال في منطقة حيث القليلين جداً يتقاسمون معنا أهدافنا. على سبيل المثال، في العراق وسورية، تصرفت كل من إيران والسعودية كـ"مشعلي حرائق" و"رجال إطفاء". في البداية، دفعت إيران الحكومة الشيعية في العراق إلى سحق السنة. وعندما أنتج ذلك "داعش"، تم إرسال ميليشيات موالية لإيران لإخماد الحريق. شكراً جزيلاً. وساعد التعزيز طويل الأمد للنسخة الوهابية السعودية المتزمتة من الإسلام، المناهضة للتعددية، والمعادية للمرأة، على تشكيل تفكير "داعش" والأصوليين السنة الذين انضموا إليها. وبذلك، يكون السعوديون أيضاً مشعلي حرائق ورجال إطفاء. وفي الحقيقة، يشبه "داعش" صاروخاً أخذ نظام سيطرته من السعودية، ووقوده من إيران.
يجب أن تكون سياسة الولايات المتحدة الآن هي: "الاحتواء، زائد التعظيم". دعونا نساعد أولئك الذين يبدون رغبة في احتواء "داعش"، مثل الأردن ولبنان والإمارات العربية المتحدة والأكراد في العراق، ونقوم بتعظيم أي أشياء بناءة تكون المجموعات في اليمن، والعراق، وليبيا أو سورية على استعداد للقيام بها بما لها من قوة، لكننا يجب أن لا نُحلَّ قوتنا نحن محل قوتهم. ينبغي أن يكون هذا نضالهم هم من أجل مستقبلهم. وإذا كانت مكافحة "داعش" تستحق العناء بالنسبة لهم، فإنها لا يمكن أن تكون كذلك بالنسبة لنا.
في نهاية الأسبوع الماضي، كنت أسير وراء سيارة عليها لوحة ترخيص من فرجينيا، والتي تحمل الشعار "كافحوا الإرهاب". آسف، ولكنني أعتقد أن ذلك ينبغي أن لا يكون موضوعاً على أي لوحة ترخيص في أي ولاية أميركية. لقد أنفقنا أكثر من عقد من خسران الأرواح والمال في محاولة "مكافحة الإرهاب" من أجل إصلاح وتجميع جزء من العالم لا يمكن إصلاحه من الخارج. كان ذلك كله هدراً ومضيعة للوقت. وأتمنى لو أنه قد عمل. كان العالم سيكون أفضل. لكنه لم يفعل. وبداية الحكمة هي الاعتراف بذلك والتوقف عن إنفاق المال الجيد وراء السيئ. إننا بحاجة إلى التوقف عن كوننا "الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب". وإذا ما احتاج الفرجينيون إلى شعار يضعونه على لوحة الترخيص، فماذا عن: "احتووا وعظموا في الخارج. وابنوا فرجينيا في الوطن".
(نيويورك تايمز) 27/5/2015 ـ ترجمة الغد ـ 1/6/2015


