خبر : ارحموا من في الأرض! ...وليد أبو بكر

السبت 23 مايو 2015 08:26 ص / بتوقيت القدس +2GMT



قبل ما يزيد على نصف قرن، كنا نشكو من أن قضية فلسطين لا تحظى باهتمام الرواية العربية. ولم تكن فلسطين أفرزت روائييها الحقيقيين الأوائل، الذين حملوا همّ قضيتهم، وعبروا عنه، وصاروا ينطقون باسمها، ثم سار على دربهم آخرون، بعضهم استطاع أن يتابع الطريق الذي شقه الرواد، وبعضهم الآخر دعمت وجودَه أسباب لا علاقة لها بذلك الطريق.
قبل الثلاثي الذي لا يزال يتصدّر القائمة (غسان وجبرا وإميل)، كانت هناك بكائيات، وكانت محاولات ساذجة لا تقدم للقضية ولا للأدب شيئاً، وإن كان هناك شيء أقرب إلى الحكايات الصحافية منها يمكن أن يشكل ظاهرة يسهل قبولها (نبيل خوري وناصر الدين النشاشيبي)؛ بذلك كانت هناك ضرورة لخروج أدباء من رحم القضية ذاتها، أو من ارتباطهم العضوي بها، حتى تكون لكتاباتهم صدقية، بعد أن تكون لديهم موهبة في هذا الفن.
حتى "العلامات الثلاث" لم يكن ما قدمته ــ على أهميته وجديته ــ يدخل في العمق. كنفاني ركز على تشكل الفلسطيني في الخارج، كمقدمة للمقاومة، وجبرا خلط بين ما وعته الذاكرة وحياته المستقرّة بعدها، وإميل حبيبي كانت له مواقفه الخاصة، التي ما تزال بحاجة إلى مزيد من الدراسة، وخصوصا في رواية المتشائل، التي اهتم النقد بشكلها المختلف أكثر من اهتمامه بمقولاتها، وحين فعل، أخذ ظاهرها أكثر مما التفت إلى ما ترمي إليه، قصدا أو عفوا.
هذا التوجه الجاد، والفني، منذ نشأ، خطّ دربا صار من الصعب أن يحيد عنه الكاتب الفلسطيني، وقد جعله "مطوقا" بقضيته، لا يستطيع التعامل مع الكتابة بعيدا عنها، ولكنه في الوقت نفسه لم يطلب من كل فلسطيني، أو عربي، له ارتباط عضوي بالقضية، أن يكون كاتبا، وأن يرى أن من واجبه أن يكتب عن "قضية العرب الكبرى"، كما كانت تسمى ذات زمن، قبل أن تنافسها مآسٍ أكبر. 
في مرحلة تالية، يمكن القول إن الفصائل الفلسطينية، خصوصا في مرحلة بيروت، (وربما انطلاقا من واجب الكتابة) خلقت روائييها: بعضهم كان يستحق الوجود، وبعضهم الآخر كان مجرّد استكمال لشكل، بهدف المشاركة، حتى وإن لم يكن لديه ما يضيفه. وكثيرا ما كانت شهرة الكاتب مرتبطة بقوة الدعاية التي ترافقه، أو بقوة فصيله الواقعية ــ على الأرض ــ أو القائمة على الدعاية. لذلك كان عدد الذين ثبتوا على الفن قليلا، وعدد الذين أنجزوا فيه شيئا مختلفا أقلّ، لأن معظمهم استند إلى سرد حكاية عايشها أو تذكّرها، دون أن يحوّل ذلك إلى رواية، بكل ما يقتضيه هذا النوع الكتابي من فهم ومن موهبة.
في هذا الزمن، وفي ضوء التهويد الحثيث للقدس، والضياع الذي يهدد القضية برمتها، بتنا نشكو من كثرة الروايات التي تتخذ من فلسطين، ومن القدس، موضوعا لها، اعتمادا على أنه الموضوع الرائج، الذي يجذب العاطفة، ويساعد على الانتشار، أو الشهرة، أو الذي يصعب أن ينتقد من يكتب فيه، لأن التوجه الوطني نحو القضية العربية المقدسة يغفر الهنات جميعا، ويحمل لصاحبه فخر السباحة مع هذا التيار، الذي يحمي صاحبه، حتى وإن كان يجهل ما هو ماض إليه.
خلال الفترة الأخيرة، قرأت ما يزيد على عشرين رواية عن فلسطين، غالبيتها يعبر في اتجاه القدس، ولم أجد بينها إلا أقل القليل مما يليق بالقضية، أو بالقدس، ما يجعل سؤال الانتهازية يصعد إلى الذهن، وهو السؤال الذي يشير إلى أن بعض الكتابة تهدف إلى إثارة العواطف السياسية للقارئ، كما تثير بعض الروايات عواطف جنسية عند المراهقين، فتصنع لأصحابها (أو صاحباتها) شهرة زائفة، من المؤكد ألا يبقى منها شيء بعد حين، كما دلت تجارب كثيرة من هذا النوع، في وطننا، وفي كل الأوطان. 
ومن السهل الإشارة إلى كثير من الخلل الذي يرافق الكتابة عن فلسطين (وعن القدس خصوصا)، وهو يبدأ من اعتبار الموضوع كافيا، مهما كان نوع ما يملأ الفراغ الذي يلي العنوان: إن من الصعب مثلا تقبل معايشة للقدس ــ الآن ــ ممن لم يعايشها. التعرف من خلال البحث أو السماع لا يصحّ في الرواية التي تكتب عن أحداث معاصرة، كما هو حاله في الرواية التاريخية، لأن المكان في هذه الحالة، جزء من التكوين الفني للعمل الروائي، لا مجرّد إطار له، ولأن هذا المكان، يعيش زمانه أناس يجب أن يبدوا حقيقيين في سلوكهم، حتى وإن كانوا داخل عمل روائي.  
كل الحيل التي تخترع من أجل جعل ما يروى قابلاً للتصديق لا تجدي نفعا، سواء أجاءت على لسان من يروي لمن يكتب (لأن الكاتب هو الصوت الحقيقي لروايته)، أو جاءت عن طريق زيارة عابرة، للتعرّف على المعالم البارزة، أو جاءت عن طريق استخدام مذكرات وقعت في اليد: الرواية تأليف، وحين لا تكون جزءا من تجربة صاحبها، فإنها تقع في الخلل. وكل تزويق يهدف إلى إخفاء غياب التجربة، مكشوف تماما، حين يحاول أن يلون السرد، الذي يعتمد على الأحداث، ببلاغة مفتعلة، حتى ينسي القارئ غيابها، أو غياب الصدق الفني عنها.
بعض الروايات يلجأ إلى التدخل المباشر، وهو أكبر عيب يمكن أن يقع فيه كاتب الرواية، لأنه يفقد السرد حيويته، وهو حين يتكرر في معظم الصفحات، ويتحول إلى الشرح، ينفّر القارئ، لأنه يهمس في أذنه كل لحظة بما يعني: أنا لا أثق في فهمك لما أقول، عليّ أن أشرح لك بالتفصيل. وكل ذلك يشير فقط إلى أن الكاتب نفسه لا يعرف كيف تكتب روايته.
وفي بعض الأوقات يلجأ كاتب إلى استخدام لغة غير روائية: إنه يفخّم عباراته يريد لها أن تخدع القارئ، ويدور حول الفكرة حتى يوهم بأنها مهمة، وكثيرا ما يلجأ إلى لغة لا تصلح إلا للشعر، من مثل "لزوم ما لا يلزم" فيها، أو توسيع الترخيصات اللغوية شبه الميتة التي تقول إنه "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره"، وهو ما يتنازل عن معظمه الشعراء الذين يثقون في أنفسهم. كما أن استخدام الشذوذ في اللغة كقاعدة سائدة، يدخل في هذا المجال، كما في تقديم الخبر في معظم الجمل الاسمية، دون ضرورة تجيز ذلك.
كثرة الكتابة قد لا تكون خيرا دائما، وهي لا تفيد القضية في شيء، إن لم نقل إنها في حقيقة الأمر تبتذلها. المهم هو كيف تكون الكتابة. لا شك في أن رواية واحدة عن فلسطين، أو عن القدس، تكون ناجحة فنيا، وناجحة فيما تطرح، يمكنها أن تغني عن عشرات الروايات التي ترغب في أن تتاجر بقضية حساسة، لكنها لا تقول عبر ذلك شيئا، ولا شك في أن من واجب الكتاب أن يكتبوا عن القدس، لكن ذلك لا يعني أن القدس تؤهل كل الناس كي يكونوا كُتاباً.