لأنها المحروسة، قلعة العرب، وقلبها، وقِبلتُها فإننا نخشى عليها من الأحكام التي أصدرتها محاكمها بإعدام أكثر من ألف مصري أحالت أوراقهم الى المفتي لاستطلاع الرأي قبل تنفيذ الأحكام بحقهم.
في البداية، اعتقدنا بأن المسألة لا تعدو عن ممارسة ضغوط على تنظيم الإخوان المسلمين بهدف إسكات تظاهراتهم ودفعهم للتفاوض على قاعدة أن تنازل الأولى عن مطالبها بإعادة الرئيس المعزول مرسي للحكم مقابل تخفيض الأحكام والإفراج عن عناصر الجماعة وإعادة دمجها لاحقاً في الحياة السياسية المصرية. لكن تنفيذ الإعدام بحق سبعة متهمين مؤخراً يعطي الانطباع بأن أحكام الإعدام جدية وليست من باب الدفع بالخصم لقبول مبدأ للتفاوض. وهنا بالضبط يكمن الخطر، فإذا كانت النية هي تنفيذ الإعدامات بقصد ضرب تنظيم الإخوان المسلمين وإلحاق الهزيمة بهم، فإن أي عاقل عليه أن يتساءل عن نتائج هذه السياسة وعليه أن يحذر منها.
بداية يجب التأكيد على أن الأحكام التي طالت الرئيس المعزول وقادة الإخوان الذي كانوا معه في سجن وادي النطرون هي موضع تساؤل مشروع في الإطارين العام والخاص. في الإطار العام هنالك غرابة في محاكمة سجناء سياسيين قامت ثورة من أجل الإطاحة بالنظام الذي وضعهم في السجن. هذه سابقة لم تحدث في ثورات سبقت الثورة المصرية لأن السياسيين عادة بعد الثورة يخرجون من السجن لاستلام مناصب سياسية من باب الوفاء لتضحياتهم مثلما حدث في تشيكوسلوفاكيا وجنوب أفريقيا.
في الإطار الخاص بقضية سجناء وادي النطرون، فإن قادة الإخوان الذين خرجوا من السجن لم يختفوا خوفاً من إعادة اعتقالهم بل اجتمعوا مع قادة الجيش وتفاهموا معه على المسار الديمقراطي الذي أعقب الثورة والذي تخللته انتخابات تشريعية ورئاسية. الرئيس الذي صدر قرار بإعدامه بتهمة الهرب من السجن بمساعدة "عناصر أجنبية" سمح القضاء المصري له بالتنافس في الانتخابات الرئاسية، بمعنى لو كانت هنالك قضية ضده أصلاً متعلقة بهروبه من السجن، لكان القضاء قد منعه من حيث المبدأ من المنافسة.
الغريب أيضاً أن أحكام الإعدام طالت ستة فلسطينيين من غزة يقال بأنهم ساهموا في اقتحام سجن وادي النطرون، ثلاثة منهم موتى قبل قيام الثورة المصرية بسنوات وهم: حسام الصانع (قتلته إسرائيل في 27 كانون الأول 2008)، محمد سمير أبو لبدة (متوفى منذ العام 2005)، ومحمد خليل أبو شاويش (متوفى منذ العام 2000). اثنان قتلتهم إسرائيل بعد الثورة المصرية وهم: تيسير أبو سنيمة (اغتيل في 8 نيسان العام 2011)، ورائد العطار (اغتيل في 21 آب العام 2014). يضاف لهم الأسير حسن سلامة والمعتقل منذ 1996 في سجون إسرائيل. الأغرب في الأمر بأن هذه الأسماء التي تم تأكيد الحكم عليها بالإعدام قد تم تداولها سابقاً بشكل واسع في الإعلام المصري وأصبح معروفاً للجميع بمن فيهم القضاة بأنها تشمل "موتى" لكن ذلك لم يمنع من اتخاذ قرار بإعدامهم.
من الواضح إذاً أن هذه الأحكام سياسية وليست جنائية، وهذا مصدر خوفنا الأساسي لأن الدفع بتنظيم بحجم الإخوان في مصر الى التطرف وممارسة الإرهاب مسألة يجب الخوف منها. تنظيم الإخوان في مصر يضم 400 ألف ناشط فعلي، ومناصرو التنظيم أضعاف هذا العدد بكثير. إذا اتخذ الإخوان قراراً إستراتيجياً بالانتقال من موقع العمل السياسي السلمي الى موقع ممارسة العنف المنظم، فإن مصر قد تتحول الى سورية في غضون أشهر.
البعض بسذاجة يعتقد بأن القبضة الأمنية وحدها قادرة على إلحاق الهزيمة بالتطرف والعنف. لكن هذا تقدير غير واقعي. حتى اللحظة تواجه الدولة المصرية تنظيماً إرهابياً يتيماً اسمه "بيت المقدس" يتبع "داعش" ونفوذه محصور في سيناء. على الرغم من ذلك لم تتمكن الدولة الى اليوم من إلحاق الهزيمة به. اليوم الذي حكم فيه على مرسي وقادة الإخوان في مصر بالإعدام كان نفس اليوم الذي قتل فيه عدد من القضاة في سيناء. دعونا نتخيل الآن كيف سيكون عليه الحال لو انضم الإخوان المصريون للأعمال الإرهابية وهم موجودون بكثافة في كل محافظة وحي في مصر وعلاقاتهم أوسع وأكبر بكثير من تنظيم بيت المقدس. ستتحول مصر خلال أسابيع الى ساحة حرب حقيقية خصوصاً وأن الحدود مع ليبيا والسودان تمتد لآلاف الكيلومترات وهي حدود غير مؤمنة بالكامل.
الذي منع تحول مصر الى سورية حتى اليوم ليس قدرات الأمن الخارقة للعادة. الحقيقة أن أجهزة الأمن قد تهاوت بسرعة خلال ثورة يناير 2011، ولكن الذي منع الحرب الأهلية في مصر حتى اليوم هو قرار إستراتيجي اتخذه قادة الإخوان بعدم الانجرار الى مستنقع العنف أملاً في كسب ثقة المصريين، وأملاً في التغير بطريقة سلمية تعيدهم للحكم، وأملاً في الحفاظ على شبكة علاقاتهم الدولية التي تدافع عنهم والتي تؤمن لهم شرعية العمل في الخارج وشرعية الحق في التنافس على السلطة والحكم في حالة فوزهم به من خلال صناديق الاقتراع.
لكن هذه الأعمدة التي منعت انتقال الإخوان الى ممارسة العنف ضد الدولة قد تتهاوى سريعاً تحت وقع أحكام الإعدامات. اليوم ألاحظ على الأقل وعلى مواقع التواصل الاجتماعي انتقال العشرات من إخوان مصر من موقع المهاجم لتنظيم "داعش" إلى موقع "المتعاطف" معه من باب أن الطريق السلمي للتغيير مسدود وأن "الديمقراطية" قد تم تجربتها لكنها أوصلتهم إلى "أحبال المشانق" وأن الجميع بلا استثناء متورط في "دمائهم." هذا مؤشر خطير قد لا تدركه الدولة الأمنية التي تعتقد بأنها تمتلك من وسائل العنف ما يمكنها هزيمة أي عنف مضاد. لكن هذا مجرد وهم: ولكم في سورية تجربة لا زالت حاضرة يمكن البناء عليها. حتى لو انتصر النظام السوري في معركته اليوم، فإن سورية نفسها قد ضاعت منذ سنوات.
لا نريد لمصر المحروسة أن تصل لذلك، وفيها من العقلاء والمفكرين الآلاف وربما عشرات الآلاف، وهذا وقتهم للتحرك لمنع انزلاق بلدهم الى دوامة عنف ستكون نتائجها كارثة عليهم وعلى العرب جميعاً.


