خبر : النكبة التي أيقظت وعينا.. حسين حجازي

السبت 16 مايو 2015 12:23 م / بتوقيت القدس +2GMT



لم نحرر فلسطين وطننا السليب الذي بكيناه بدموع العين كما نبكي ملكاً عزيزاً أضعناه، بل وإن الذكرى التي تحل اليوم لتطوي سبعاً وستين عاماً على هذه النكبة، إنما تقترن برقم آخر لا يقل إيحاء في تكديره للنفس، حين تمكنت إسرائيل في حرب حزيران العام 1967، من غزونا مرة أُخرى في جولة ثانية وحاسمة وتمكنت من احتلال ما تبقى لنا من فلسطين التاريخية الأولى. وعلى مدى كل هذه السنين الطويلة، امتلكت إسرائيل لنفسها ذراعاً طويلة وقوة في البحر والبر وأُخرى في الظلام غير مرئية، بدت وكأنها لا تقهر. وظلت إسرائيل التي لا تتعب أو تكل او تمل تلاحقنا حتى آخر أصقاع العالم في كل مكان حاولنا الاحتماء أو اللجوء إليه، من الأردن الى درعا السورية ومن درعا الى برج البراجنة وصبرا وشاتيلا وعين الحلوة وحتى بيروت نفسها، التي احتلتها وأخرجتنا منها وصولا الى حمام الشط في تونس. 
هل كنا نواجه عدواً استثنائياً نادراً في جبروته وحيلته وغير عادي؟ وكأنه عدو لم يخرج من كتب التاريخ حتى نتسلح بالمعرفة قياساً عما يشبهه؟ ووجدنا انفسنا طوال هذه الرحلة وكأننا لم نعرفه حتى وان كان الشعار الذي صاغه صن تزو المنظر الحربي الصيني منذ خمسمائة عام قبل الميلاد، يغمر الجدران والساحات عن «اعرف عدوك». ألهذا الحد كنا فقراء في المعرفة طوال هذه السنين حتى لم نعرف او نهتد الى حل اللغز، لغز وحش طيبة الخرافي؟ حتى لكأن إسرائيل العصية والكاسرة لتبدو في هذا السياق التاريخي خرافةً في العصر في زمن التنوير والحداثة، أطول احتلال، وآخر احتلال. دولة صغيرة بحجم اصغر من محافظة حمص السورية، او الأنبار العراقية ولكن أحداً لا يجرؤ على تحديها. 
ولم يستطع جمال عبد الناصر الزعيم الخالد قهرها او هزيمتها، وبالرغم من ان سورية على مدى عقدي الخمسينات والستينات شهدت سلسلة متعاقبة من انقلابات الضباط الأحرار، تحت يافطة تحرير فلسطين. فانظروا اليوم كيف تنهار الدول المركزية في سورية والعراق وكيف يخرج العرب من الصراع. ها لقد انتهى التاريخ عند هذه النقطة التي تدنو فيها إسرائيل من سن الشيخوخة، الم يبلغ عمرها اليوم السابعة والستين؟
لكن ترى بعد هذا العرض الذي قدمناه نحن ضحايا إسرائيل، ما بال هذه الأخيرة تبدو كما لو انها اقل فرحاً او شعوراً بنشوة النصر او الظفر؟ ما بالها تبدو اكثر اكتئاباً منا وحيث الشعوب يصيبها هي أيضا نوع من الكآبة القومية؟. ما لهم لا يكتبون بياناً او مقالاً في صحيفة عن نهاية التاريخ، بل وفي مقاربة تبدو غير مفهومة او على النقيض من مقاربتنا السالفة، يبدو خطاب الإسرائيليين كخطاب مفعم بالوساوس والمخاوف والتشاؤم، خطاب يصدر عن عقل باطني وكأنه يستحضر كل مفردات الشعور بعبث الأقدار وكآبة الروح ولا شيء جديد تحت أديم السماء. حتى لكأن الحكومة الخشبية التي شكلها بينامين نتنياهو أخيراً في إسرائيل تبدو كمجموعة من التماثيل الصنمية المحنطة والتي تناقض صورة دولة منتصرة استطاعت ان تقهر أعداءها، وتسدل ستارة على التاريخ بكلمة النهاية السعيدة كما في الأفلام المصرية القديمة.
وكان موشيه دايان الذي يمكن وصفه ببطل أبطال حروب إسرائيل وانتصاراتها الباهرة الأولى هو أول من عبر عن هذا القلق الوجودي المبكر المفعم بنزعة قاتمة من الشك الوسواسي العميق إزاء المستقبل والمصير، ومنذ أواخر السبعينات وهو على فراش الموت. وكأنه وهو المفتون بآثار التاريخ أدرك عبر هذا التأمل الأركيولوجي بأن التاريخ لا ينتهي في احتفاليات سعيدة، وإنما لا ينفك عن السير في إعادة دوراته الماضية مكرراً إياها كل مرة بنفس الطريقة. وهنا كان السؤال الذي طرحه وطالما أرقه حول المصير الذي انتهت اليه الدويلات الصليبية، وأجاب بنفسه على سؤاله «لقد ذابوا هنا في هذه الرمال نفسها». تماماً كما انتهت بنفس الطريقة كل الفتوحات والغزوات السابقة في هذه المنطقة، وحيث وحده الفتح العربي الإسلامي كما سيلاحظ دبلوماسي ومستشرق روسي قبل قرن ونصف هو قسطنطين بازيلي، من سيمنح هذه المنطقة هويتها وثقافتها الخصوصية.
وعلى هذا النحو، فكلما واجه غزوٌ ما او احتلالٌ تحدياتٍ أكثر تعارضاً وتهديداً لمصيره، فان أتباع هذا المشروع غالباً ما يتجهون في لحظات اليأس هذه الى استحضار أشد الأفكار الدينية والعرقية العنصرية تعصباً، وتطرفاً. وبحيث يبدو واضحاً ان نزعات وميولا ذات صبغة أيديولوجية كالفاشية والعنصرية والنازية والدينية المتطرفة، هي التي تحل مكان الأفكار والنزعات التي تبدو في وقت مضى وكأنها أكثر تسامحاً وإنسانوية، او ذات صبغة علمانية وليبرالية. وهو ما يبدو اليوم واضحاً وجلياً في أزمة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني الكولنيالي في فلسطين، وهي الأزمة التي بدأت الإشارة اليها في الفكر الإسرائيلي منذ العام 1980، حين نشرت مؤسسة فان لير الإسرائيلية للأبحاث مجموعة من الأبحاث التي تطرح سؤالا حول مصير إسرائيل والصهيونية في العام 2000. 
والذي حدث في غضون هذه العقود السبعة الماضية ان الفلسطينيين لم يختفوا من الخريطة، وإذ تكاثروا حتى تضاعف عددهم تسعة أضعاف عما كانوا عليه غداة النكبة في العام 1948، فان هذه النكبة نفسها هي التي كانت بمثابة الصدمة التاريخية التي أعادت إحياء ويقظة الشرق كما إيقاظ الفلسطينيين، وكما لو انها كانت هذه هي النبوءة التي بشر بها باحث مسيحي لبناني ووضعها عنواناً لكتاب شهير ومهم ألفه مبكراً ويحمل هذا العنوان : «يقظة العرب» وهذا الباحث والمفكر هو جورج أنطونيس. 
واذ لم يستطيعوا الى الآن تحرير فلسطين كما أملوا منذ ذلك الوقت غداة النكبة، الا انهم استطاعوا أن يشطروا وعي عدوهم ووعي العالم الى شطرين، دولة فلسطين وإسرائيل. وبحساب الزمن ربما كانت الرحلة طويلة، تمتد اليوم الى الجيل الرابع من الفلسطينيين،  لكن مأثرتهم الحقيقية في غضون هذا الحساب للزمن إنما كانت في صلابة روحهم وارتقاء وعيهم مبكراً، الذي قادهم الى التحرر من وهمهم السابق وأخذ قضيتهم بأنفسهم وفي هذا التحول العظيم في بلورة وطنيتهم الفلسطينية الخالصة.
في العام السابع والستين للنكبة يكفي ان نتأمل في المشهد الذي يرتسم أمامنا اليوم، على مدى جغرافية فلسطين لنرى فلسطين هي نفسها التي يعاد بعثها وإحياؤها من الرماد تطفو على المشهد والجغرافيا، في ذروة مخاض عنيف تنتقل فيه من ممالك المدن المحاصرة والمطوقة: من الجليل الى غزة والضفة والنقب. كل مدينة دويلة تخوض حرب خلاصها، فيما إسرائيل تندفع رويداً رويداً نحو انغلاقها وانكماشها بحثاً عن خلاصها من عقدة الخوف على وجودها، مرتدة الى أصولية مغرقة في ظلاميتها وعزلتها. فيما الفلسطينيون هم الذين يبدون اكثر تمدداً في البقاء على محور الزمن والتاريخ الذي لهم، وكأن حرب العام 1948 لم تنته منذ ذاك الزمن، والسجال لم يحسم بعد، وحيث قال الإسرائيليون في الجولة الأولى كلمتهم وما زال الفلسطينيون لم يتموا قول كلمتهم النهائية بعد.