خبر : دولة تغرد خارج الزمن ....حسين حجازي

السبت 09 مايو 2015 08:11 ص / بتوقيت القدس +2GMT




توقعت هنا شخصياً وربما آخرون غيري انه في النهاية وعند اللحظة الحاسمة والمهمة الشاقة، اي تشكيل الحكومة فانه لن يكون أمام نتنياهو من خيار سوى السير على الطريق نفسها، التي سار عليها أسلافه من رؤساء حكومات الليكود من أمثال مناحيم بيغن أواخر السبعينات، واسحق شامير في عقد الثمانينات، وحتى أرييل شارون في طبعاته المتأخرة.
 لقد أدرك هؤلاء الزعماء اليمينيون والذين لا يقلون تطرفا وديماغوجية عن بنيامين نتنياهو، بأنه ولأسباب لا يخلو أخذها بعين الاعتبار من حنكة وذكاء، يتعلق بتسويق سياساتهم وحتى أشخاصهم المكروهين والمنبوذين تحت غطاء من المداهنة والملق السياسي على المسرح العالمي وربما أيضا إدامة الوهم لدى الفلسطينيين، بانه لابد لهم في كل مرة من العمل على إخراج حكوماتهم بهذا التلوين الذي يشبه ورق السلفان في بريق لمعانه، كنوع من الخداع : موشي دايان وعيزرا وايزمان في حكومة بيغن الأولى، وشمعون بيريس واسحق رابين مع حكومات إسحاق شامير وأرييل شارون، وحتى نتنياهو نفسه في حكوماته السابقة مع إيهود باراك وشمعون بيريس كرئيس للدولة.
فما الذي دعا نتنياهو هذه المرة للخروج عن هذا السياق او التقليد الذي درج عليه قادة الليكود السابقون؟ حتى ليبدو كما لو انه يختار العناد المقترن بالغرور والتهور، وهو الخيار الذي يجافي الحنكة والذكاء. ويتصف اليوم على نطاق واسع في التحليل المتداول على انه الطريق القصيرة والمستقيمة، التي تؤدي بالرجل الى الحكم على نفسه بالانتحار السياسي. اذا كانت هذه حكومة تضم مجموعة من الأشخاص الأيدولوجيين المتحفيين والمحنطين في أفكارهم ومعتقداتهم، وغير المقبولين او مرحب بهم حتى في إسرائيل، ومن الواضح ان أحدا في العالم لا يمكنه التعامل مع هذه الشخصيات او يتقبل هذه الحكومة كحقيقة او أمر واقع.
ان التفسير الوحيد الذي أراه ممكناً في ظني لما اقدم عليه نتنياهو، هو مرة اخرى ليس الا مرض العضال التاريخي الذي يتفق بالإجماع على وصفه في علم التحليل السيكولوجي بالتذاكي الذي يعتقد دوما في قرارة نفسه انه يستطيع ان يضحك على الجميع، وبهذا المعنى وفي ضوء هذا التحليل النفسي وليس السياسي يمكن أن نصف الطريقة التي تصرف بها نتنياهو تحت تأثير هذه الدوافع او العصاب النفسي الأناني على النحو التالي :
أراد نتنياهو ان يبين لباراك أوباما أولاً وهو عدوه وخصمه الأكبر، ان باستطاعته كسر القواعد التي طالما حكمت العلاقات بين رؤساء حكومات إسرائيل ورؤساء الإدارات الأميركية. ونظر بموجبها الى الرؤساء الأميركيين بأنهم أولياء نعمة هؤلاء التابعين، ودرجت العادة على ان يراعي زعماء إسرائيل إرضاء هؤلاء القياصرة في كل ما يفعلون. والواضح اليوم ان نتنياهو الأشكنازي الأبيض الذي يحتقر السود الإثيوبيين، هو وطبقته السياسية في اسرائيل ابناء قبيلته من اليهود السود الفلاشا، لا يخفي في قرارة نفسه التعالي ازاء الرئيس الأميركي، وهو ما برح يتصرف ضمنياً على هذا الأساس. 
 هنا أراد نتنياهو توجيه صفعة أُخرى تعكس احتقار نتنياهو لباراك أوباما، الذي كان ينتظر ويعول على تشكيل نتنياهو حكومة وحدة وطنية مع حزب العمل وتسفي ليفني. لكن نتنياهو الذي كان يدرك رغبة أوباما خيب أمله وجعله يتعرق لكي يرسل له برسالة مفادها انه هو ريتشارد قلب الأسد في هذا الخلاف المعلن بينهما. 
ولكن في الوقت نفسه، اذ وهو يعيد رسم هذه المعادلة من جديد، فانه لم يترك طرف الباب موارباً وغير مغلق تماماً، كنوع من التذاكي او المناورة يرسل من خلالها رسالة أُخرى للإدارة الأميركية كما للأوروبيين والرئيس أبو مازن، ان لا تستعجلوا وانتظروا الملحق القادم، موحياً للجميع بنيته المبيتة توسيع هذه الحكومة، بضم هيرتسوغ الذي يريدونه. وان كنت اعتقد ان وجهة مناورته القادمة من تحت الطاولة هي «حماس» في غزة، على امل ان يستطيع بذلك عزل ابو مازن وإفشاله اذا كان الصراع الحقيقي في جوهره هو على الضفة الغربية في تكاملها مع غزة في إطار المشروع الوطني الفلسطيني ومحاولة نتنياهو إفشال هذا المشروع بالأساس. 
كان تسجيل هذه النقطة على أوباما التي ترضي غروره هي المسألة الأولى او الرسالة التي أراد ان يبعث بها الى الداخل والخارج، في آن معا، بانه يتخذ قراراته بصورة مستقلة وفق إرادته دون الرجوع لوصاية احد. أما النقطة الثانية التي أراد تحقيقها فهي إذلال وإهانة افيغدور ليبرمان وتسديد فاتورة الحساب معه على كل الإهانات والاستفزازات التي مارسها معه في وقت سابق، وانه بالرغم من ان الرغبة بإهانة ليبرمان وإخراجه من تشكيلة حكومته الجديدة كلفته تجرع الإهانة والإذلال من نفتالي بينت، الذي جعله يتعرق حتى اللحظة الأخيرة وأخذ منه كل ما أراد، ولكن على ما يبدو فان تسوية الحساب مع هذا الثور النطاح هي الفصل واللحظة التالية التي اجلها نتنياهو الى حين. ولاسيما وسط الصياح والغضب والحنق الذي يتصاعد من داخل حزب الليكود نفسه، حينما يحين موعد ضم «المعسكر الصهيوني» الى هذا الائتلاف، ويكون ذلك على حساب التخلص من نفتالي بينت.
هكذا ربما فكر هذا المتذاكي بأنه يمكنه ان يضحك على الجميع، لكيما ترفع له القبعة بالأخير ويقولون عنه انه «ملك إسرائيل «. كما قالوا عن بن غوريون ورابين وشارون وكانت عقدة الرجل ولا زالت ان يضعوا اسمه الى جانب اسم بن غوريون، كأطول رئيس وزراء يمضي في الحكم، والرجل الذي استطاع ان يتفوق على الجميع حتى على رئيس الولايات المتحدة. وربما في وقت لاحق يتفوق وينتصر على إسرائيل نفسها اذا كان قدره الذي تلوح مقدماته وملامحه، هو انه وليس احد غيره من يقود إسرائيل اليوم الى دمارها الذاتي، السير بنزعتها الكامنة في بذرة نشوئها سيرا على سنن وعوائد التاريخ كما لاحظ ابن خلدون. 
وقد تبقى من هذه القصة في فصلها الأخير لحظة التأمل والتفكر، الذي يستدعيه هذا التحول الثالث ربما والأخير في سياق تاريخي طويل، من تعاقب تشكيل الحكومات في إسرائيل التي مرت أولا بحقبة حكومات حزب العمل الخالصة والتي ترافقت مع صعود إسرائيل في عصرها الذهبي والبطولي حتى العام  1977، الذي جاء بانقلاب الليكود وهيمنة حكومات الشراكة بين العمل والليكود وتذبذب في بارومتر المزاج الإسرائيلي الداخلي في حقبة تميزت إجمالا بعدم الاستقرار، وتناوب الفوز بالانتخابات بين العمل والليكود، ولكن مع صعود ملحوظ لقوة اليمين. 
ان التحول الراديكالي الأخير يشير الى ذروة تمدد كما نهاية هذه الحقبة من صعود اليمين، حينما يبدو واضحا ان هذا المصطلح الفضفاض والغامض او العام، والذي يبدو في وقعه كمصطلح سياسي شائع ومتداول اكثر خداعا وتضليلا من التوصيف الحقيقي لدلالة ما حدث. لقد حدث شيء يشبه الانقلاب على الارث التاريخي لصورة إسرائيل النمطية الأولى، التي حاول بن غوريون وتلامذته تسويقها في العالم عن إسرائيل. حين ندرك ان ما جرى هو تراجع او استبدال هذه النزعة اليمينية السياسية، كتيار محافظ وحتى ليبرالي بنزعة أيديولوجية دينية أصولية طاغية، وقد يصح ان نكون بهذا المعنى بإزاء الشهقة الأخيرة لهذه الأصولية اليمينية في إسرائيل. اذا كانت هذه النزعة الأيدولوجية لا تملك القدرة على الاستمرار وأحداث هذه التكيفات او الملاءمات، التي تقوم عليها اي ممارسة سياسية في علاقتها مع الزمن. وحيث يبدو هذا خروجا لإسرائيل من الزمن في الوقت الذي يظهر فيه الفلسطينيون قدرة بمجموعهم على الاندماج والتكيف والتماهي مع هذا الزمن، روح وخطاب العصر. وفي هذه الدلالة انما يكمن تفوق الفلسطينيين على اسرائيل، عند لحظة تاريخية تبدو فارقة حقا.