ما أن تهدأ مناوشات التحريض بين حماس وفتح حتى تعود للاشتعال مرة أخرى. ومن يدقق في الخطاب الاعلامي والسياسي للحركتين سيصل الى نتيجة مفادها انهما سائرتان في خطين متوازيين لا يلتقيان. مناظرة جامعة بير زيت بين الكتلتين الطلابيتين كانت أشبه بصراع مليشيات عسكرية لا تمت الى الجامعة ودورها الثقافي والاكاديمي والتنويري بصلة. انهمرت التهم المتبادلة على لسان الناطقين باسم الكتل الطلابية بحماسة خطابية مفرطة، والتي استهدفت كل شيء ما عدا العقول. طرح الناطق باسم كتلة حماس التحرير من النهر الى البحر في الوقت الذي تتفاوض فيه الحركة على هدنة طويلة الامد، وكانت قيادة الحركة أقرت ببرنامج الدولة في الضفة والقطاع، ولم يتميز موقفها عن برنامج فتح والمنظمة إلا في رفض الاعتراف باسرائيل الذي استعاضت عنه بهدنة طويلة الامد تعترف مواربة بإسرائيل. وتندر الناطق باسم حماس من الاشكال النضالية التي تتبعها فتح «كالمقاومة الشعبية ومقاطعة اسرائيل « مقدما البديل وهو حرب حماس بالصواريخ التي هزمت إسرائيل. مقابل ذلك استقوى الناطق باسم كتلة فتح بالرموز (عرفات ومروان البرغوثي وابو عين) وبمواقف سلبية لحركة حماس. استقوى كل طرف بسلب الاخر ما رفع من وتيرة التحريض والاستنفار بين الحركتين.
قاضي القضاة الشيخ محمود الهباش كان قد اشعل بدوره الحريق عندما دعا دول « عاصفة الحزم « العربية إلى مهاجمة حركة حماس في قطاع غزة لانها تمردت على الشرعية الفلسطينية. الخطاب الديني الذي استخدم المنابر في الضفة وفي غزة لا يقل في تحريضه عن تحريض الناطقين الاعلاميين فضلا عن وسائل الاعلام التي تبث تحريضها على مدار الساعة. على مدار الساعة
كل الاتفاقات المبرمة بين الحركتين ابتداء من اتفاق القاهرة مرورا بمكة والدوحة وانتهاء بالشاطىء لم تجد طريقها للتطبيق. أخفق المسعى الذاتي الداخلي في التوصل الى حل، واخفق المسعى العربي الخارجي في إلزام الحركتين بالتوافق. وكل طرف يحمل مسؤولية الاخفاق للطرف الاخر. حماس تتهم فتح بأنها عطلت وتعطل المصالحة استجابة لمطلب اسرائيلي وأميركي. وفتح تتهم حماس بأنها لم تتراجع عن مشروعها في إقامة إمارة إسلامية في قطاع غزة. أمام التنافر والاخفاق وأزمة الثقة العميقة بين الحركتين لم يعد السواد الاعظم من المواطنين يثق بإمكانية إنهاء الانقسام، أو بتطبيق الاتفاقات ذات الصلة.
العنصر الاخطر في ظاهرة الانقسام، أنه مصلحة إسرائيلية غير ملتبسة بل صريحة ومعلنة. فمنذ أواسط التسعينات اتبعت دولة الاحتلال سلسلة من إجراءات فصل الضفة عن قطاع غزة تطبيقا لمشروع الفصل العنصري (الابارتهايد) الذي يضع التجمعات الفلسطينية في «بندوستونات» منفصلة عن بعضها البعض، ولا يتم الاتصال فيما بينها إلا بشروط وضوابط إسرائيلية. وشجعت دولة الاحتلال الاقتتال الداخلي والانقسام، وأعلنت مرارا انها لا ترغب في إسقاط حكم حماس في غزة، ليس حبا في حماس وانما بهدف بقاء الانقسام، الذي يعزز الابارتهايد. ووفقا لذلك فان حروبها ضد حماس لا تتجاوز سقف ضبط قواعد اللعبة السياسية من خلال الضغط العنيف على حماس لضبط الهدوء، او تجديد التهدئة ضمن قواعد مريحة لدولة الاحتلال.
ولم تحاول حركة فتح تفادي الانقسام بعد فوز حماس في انتخابات 2006، سواء بوضع ميثاق شرف متفق عليه للشراكة الجديدة مع حماس في حال فوزها في الانتخابات، ميثاق يضع خطوط البرنامج الوطني والمرجعية والمبادىء الديمقراطية والشرعيات الدولية والعربية التي يستند اليها النظام الفلسطيني، وقواعد التعامل مع الاتفاقات المبرمة. إن اتفاقا مسبقا من هذا النوع كان سيشكل ناظما للشراكة وتبادل السلطة في إطار النظام الفلسطيني الجديد. لكن حركة فتح اعتقدت انها باقية في مركز السلطة والمنظمة الى ما لا نهاية، ولم تستشعر نبض الناس ولا حتى الحراك في قاعدتها التنظيمية وأنصارها. كانت عقلية وثقافة الحزب الحاكم الى الابد قد طغت على سياسة حركة فتح.
اعتقدت حركة حماس بعد فوزها في الانتخابات انها ورثت السلطة، وانها استبدلت تلقائيا برنامج السلطة وسياساتها ببرنامج حماس وسياساتها على قاعدة اكثريتها البرلمانية. مغفلة طبيعة النظام الفلسطيني المعتمد في القانون الاساسي وهو النظام المختلط الذي يجمع بين النظام الرئاسي والبرلماني على النمط الفرنسي. ومغفلة أن مرجعية السلطة هي المنظمة التي تستطيع اتخاذ مواقف حاسمة بفعل صلاحياتها المنصوص عليها في النظام الاساسي. لم تسع فتح الى تصويب الاختلال، بوضع اسس للشراكة الجديدة هي ذات الاسس التي كان من المفترض وضعها في ميثاق الشرف، ومحاولة إقناع وإلزام حماس بها. لكن حركة فتح تناغمت مع الموقف الاميركي والاوروبي الذي وضع شروطا للاعتراف بسلطة حماس هي الشروط ذاتها التي وضعتها إسرائيل لقاء اعترافها بالمنظمة وبسلطتها في الاراضي الفلسطينية. واعتقدت حركة فتح ان الرفض الرسمي العربي والدولي لسلطة حماس يكفي لاستعادة السلطة التي خسرتها بالانتخابات. ولم تدفعها الهزيمة المريرة لمراجعة أخطائها والعمل على تجاوزها.
في غياب المعايير (المبادىء والأسس)، وفي حضور التدخل الخارجي وضغوطه، وفي غياب مبادرات فلسطينية خلاقة، احتدم الصراع بين الحركتين على السلطة بلغ ذروته بالانقلاب العسكري الذي نفذته حركة حماس في قطاع غزة.
وجذر الانقسام يعود الى ايديولوجيا الاسلام السياسي التي لا تؤمن بالشراكة ضمن إطار واحد، هو في حالتنا منظمة التحرير. فقد رفض الاسلام السياسي دخول منظمة التحرير في أوج صعودها، ورفض الشراكة معها في قيادة الانتفاضة الشعبية الاولى، ورفضت الشراكة مع اي قوى اخرى أثناء سيطرتها على قطاع غزة. رفض الشراكة لا يقتصر على حركة حماس، بل يمتد الى كل شركائها في الايديولوجيا كالاخوان المسلمين في مصر عندما وضعوا دستورا لجزء من الشعب المصري وسعوا الى الاستئثار بالحكم. ويمتد الى تجربة الاسلام السياسي في ايران والسودان وأفغانستان وباكستان وليبيا والصومال وسورية واليمن.
انحياز الاسلام السياسي للدولة الدينية ورفض الدولة المدنية، يفسر عدم حساسيته لحل المسألة الوطنية. فطالما ان الدين هو وطن المسلمين، فإن السيطرة على المجتمع وتعميم الايديولوجيا الدينية هو الاساس، ويجوز تأجيل او تجميد المسألة الوطنية، وإحالتها الى السماء ورب العالمين. هنا تحدث القطيعة مع كل التيارات السياسية التي تضع حل المسالة الوطنية في المقدمة دون ان تتعارض مع الدين او تكون بديلا له.
السؤال الذي يرقى الى تحدي كبير، هل يندمج ويتشارك الاسلام السياسي بالحركة الوطنية الفلسطينية ؟ مسؤولية تقع بالدرجة الاولى على القوى الوطنية والديمقراطية، وثانيا على استجابة قوى الاسلام السياسي.
Mohanned_t@yahoo.com


