خبر : نيسان الذي يذرف دمعا بانتظار عودة الأبطال الغائبين ... حسين حجازي

السبت 18 أبريل 2015 09:22 ص / بتوقيت القدس +2GMT




ما الذي يجعل من شهر نيسان الضاحك، يضحك في ثوب الفرح والعيد الجديد، كما في أغنيات الرحابنة وفيروز؟ متسربلاً بكل هذا الوشاح الأسود من الحزن والألم، حينما يقترن فيه يومان متجاوران بهذه الغمامة المكدرة للنفس وكأنهما في تجاورهما هما ذات اليوم الواحد، الذي يرمز الى الجانب الأسود في قصة البشرية. يكدران في معناهما صفو تلك البراءة العطرية لسحر الحياة الطبيعية والعادية الأولى، كما في القصيدة الأولى عن ربيع الحياة الضائعة على لسان الشاعر البحتري:

«أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً 
من الحسن حتى كاد أن يتكلما» 
ها نحن الشعبان العدوان اللدودان نقف موحدين في هذا اليوم الواحد، كضدين يجمعهما شعور مشترك، السادس عشر والسابع عشر من نيسان الحزين موحدين في هذا الحفل أو الطقس الإنساني الجماعي العاطفي والحضاري، نمارس هذا النوع من طقوس المناحات القديمة تعتصر أعيننا بالدمع والبكاء حسرة على أحبائنا، ثم نعفر رؤوسنا بالرمال ونلطم على وجوهنا أسى ولوعة. الشعب الإسرائيلي في الذكرى السبعين للمحرقة التي تسبب بها النازي، والشعب الفلسطيني اي نحن في مناحاتنا المتواصلة منذ خمسين عاما أمام معتقلات الهولوكست الجديدة، وحين تبدو المفارقة في التماهي بين الضحية القديمة وجلادها، في تعذيب ضحاياه وهم في هذه الحالة الواقعة التاريخية نحن الفلسطينيين.
سلاما على أرواحكم أيها الضحايا من كل الأجناس والشعوب والأديان وفي أفران الغاز، فنحن الفلسطينيين ضحية الدولة التي أقيمت على انقاض هذه المحرقة، كما على انقاض قرانا ومدننا وسحر نيسان الضاحك في بلادنا وبرقوقه الجميل كما سحر الحياة العادية لأجدادنا ولنا، نعلن استنكارنا الشديد لما اقترفه النازي بحق ضحاياكم واقترفه بحقنا مرتين: المرة الأولى انه ساعدكم بهذا الفعل المشين ان تسرعوا في تحقيق مشروع دولتكم المخترعة بالأساس كفكرة حمقاء في إدراج القوى الاستعمارية الأوروبية القديمة، والثاني انه والنخب الأوربية في ممارسة هذا التعنيف العنصري ضدكم حول نخبكم السياسية وقد اكتوت من هذا التعنيف الى نخب سياسية وأيديولوجية تمارس هذا العنف والعدوانية علينا. 
سلاما عليهم اذن، ولكن من يراعي شقاءنا نحن اليوم منذ نكبتنا وحيث لا ينتظر ان تحدث معجزة ليصحو فيها ضمير الضحية بالأمس وجلاد اليوم؟ من يشفي جراح أولئك الذين هرموا وهم يعدون الايام والسنين في السجون التي لا نظير لها اليوم في عالمنا من حيث تجسيدها المادي كقبور للأحياء؟ من يلقي بالسلام عليهم وقد دخلوا المعتقلات شبابا وباتوا اليوم شيوخا تأكل أجسادهم الأمراض؟ ومن يلقي بالسلام على أمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم وأخواتهم وحتى أحفادهم؟ من يخرج في إسرائيل اليوم ويصرخ كالنبي أشعيا ويقول كفى لمواصلة هذا الحل الأمني الأخرق لأن الحل هنا في هذا الصراع ليس أمنيا وإنما سياسي بالاعتراف مرة واحد ونهائيا بالكلمة السحرية، بان هؤلاء الذين لا يكفون بدورهم عن استجلابنا لاعتقالهم كما النهر الذي لا يتوقف عن الجريان، ليسوا قتلة مجرمين محترفين بالمعنى الجنائي وإنما مقاتلون من اجل الحرية. 
ولما كان نوعا من الطوباوية الساذجة اعتقادنا بهذه الصحوة الروحانية، من لدن دولة تقوم فكرتها بالأصل على استئصالنا او امحائنا من الوجود واجتثاثنا. لاحظوا سياسة هدم البيوت والمنازل التي لا تقتصر على القدس والضفة وإنما تلاحق الوجود الفلسطيني داخل أراضي العام 1948. فان الفلسطينيين بدورهم وعلى المقلب الآخر، لن يواصلوا يا إسرائيل هذا النوع من طقوس وحفلات اللطم على الخدود. والواقع اننا لم نترك وسيلة ممكنة تقود الى تحريرهم من الأسر عنوة او بالذوق واللطف الدبلوماسي او الضغط الخارجي، وصولا الى اسر الجنود الا وقد طرقناه، وذلك منذ عمليات وديع حداد والجبهة الشعبية الخارجية المتمثلة بخطف الطائرات مرورا بعمليات التبادل بين عرفات واحمد جبريل الى اسر الجنود في ميادين القتال من لدن المقاومة الغزية. 
والراهن هنا اننا قد نكون مجددا على أعتاب صفقة أُخرى لتبادل الأسرى اذا ما صحت التوقعات او الظنون، بان المقاومة الغزية تحتفظ بأكثر من أسير واحد، وان هؤلاء الجنود الأسرى على قيد الحياة. وهو ربما ما يفسر ان الفعاليات الوطنية والشعبية في يوم الأسير بالأمس، كانت مشوبة بمسحة واضحة من التفاؤل والشعور بالثقة والأمل بالنصر، وبان العدد الأصعب والأكثر إيلاما في بقائهم سوف يخرجون هذه المرة ويعودون الى الحياة بالرغم من انف العدو، بعد ان كان الاعتقاد السائد ان صفقة شاليت هي آخر الصفقات او نهاية العهد. 
 ولكن الحقيقة التي لا يمكن الشك فيها، انه ربما في هذه القضية حصرا كان العهد الفلسطيني الجماعي هو العهد والقسم وهو القسم. واذ يتبدى في بعض الأوقات والظروف كما لو ان الفلسطينيين يحاربون بالمجزأ ومتفرقين، وحداناً وكلاً على حدة في الجغرافيا وحتى في التوقيت: غزة لوحدها كما القدس والخليل والضفة وحتى الفلسطينيين داخل اراضي العام 1948، وفي الشتات واليوم في مخيم اليرموك كما في مخيمات الأردن ولبنان بالامس، الا انهم «فتح» و»حماس» خالد مشعل وأبو مازن وكل الجماعة الوطنية الفلسطينية، انما تتجلى روحهم الوحدوية والقتالية معا من حول هذه القضية، جنباً الى جنب بالمناورة السياسية التفاوضية يفك الرئيس أبو مازن اسر الجزء الأكثر قدماً، وتكمل «حماس» فك اسر الجزء الآخر عن طريق الأسر، تماما كما توحد في الماضي حول نفس المهمة، ياسر عرفات واحمد جبريل رغم الاحتراب الذي جرى بينهما. 
لكنه بالمعنى الرمزي والإنساني يظل الوقوف عند إحياء هذا اليوم اكثر تعبيرا في دلالته من كونه لحظة جماعية من اجل الإبقاء على الذكرى، وإنما تجسيدا حيا وحاضرا للتعبير عن مضاء وقوة هذه الروح التي تجمع وتوحد شتات وتجزئة شعب بأكمله، في تفوقه على نفسه كما التأكيد على عناده في رفضه الاقرار بهزيمته. إنها واحدة من اعظم واجمل اللحظات التاريخية التي تمثل المحك الحقيقي لجدارة شعب في ان يكون له الحق في الحياة في مكان على ارضه تحت الشمس.
تمتزج العاطفة التعبيرية الإنشائية وكذا الروح المسيحانية التبشيرية، في تآلف كلمات هي بالأساس لا تملك سردية اخرى، تخرج بها عن هذا المقام باعتبارها إسهام المقال لمناسبة المقام في الإطار الكلي العام، وهو ذات المقال الذي كتب في المرة الأولى في 17 نيسان 1982، في صحيفة تصدر في لبنان ضرباً على هذا الوتر. ولعلني اكتب اليوم بعد 33 عاماً بنفس الروح، في هذه الصحيفة التي تصدر في فلسطين. وهكذا سوف نواصل هذا الوقوف الجماعي في صحيفة او مهرجان او مسيرة في الشوارع لأجل التأكيد على شيء واحد بالأخير تمجيدنا هذه الكرامة الإنسانية، التي خلقنا الله عليها، والتي هي بطولتنا، بطولة شعب في مأساة انتظاره الذي لا يمل عودة أحبائه الغائبين.