ظلت القضية الفلسطينية منذ لحظة تشكّلها في الوعي الإنساني رهينة للتفاعلات والتطورات التي تحدث على الصعيدين الإقليمي والدولي، وأثبتت الأحداث المتعاقبة صدق ذلك، بل ودفع الفلسطينيون أثماناً باهظة على مدى التاريخ نتيجة انتصار هذا الطرف أو ذاك أو تراجع نفوذ هذا الطرف أو ذاك، فكان انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية سبباً في تسريع إنشاء الكيان الإسرائيلي وحدوث النكبة الفلسطينية عام 1948، وخسر الفلسطينيون أرضهم عام 1967 عندما أقدم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على طرد المراقبين الدوليين وأعلن اعتزامه هزيمة الكيان الإسرائيلي في أي مواجهة قادمة، ودفع الفلسطينيون من دمائهم في لبنان عام 1982 بعدما اطمأنت إسرائيل إلى تجميد حالة الاشتباك مع مصر بعد تطبيق اتفاقية كامب ديفيد، ثم أُجبر الفلسطينيون على الذهاب إلى مؤتمر مدريد بعد الانتكاسة التي مني بها صدام حسين في مواجهة التحالف الأممي الذي تشكل بعد اجتياحه للكويت عام 1990، وأخيراً اضطر الفلسطينيون إلى مواجهة مآسي ما بعدها مآسي جراء التطورات التي طرأت في منطقة الشرق الأوسط في أعقاب ما يسمى بالربيع العربي.
تعيش منطقة الشرق الأوسط هذه الأيام حالة من عدم الاستقرار، فمن جهة يتصاعد التطرف الديني ويهدد بقوة أمن واستقرار دول المنطقة، فالسعودية تواجه هذا الخطر منذ سنوات، وهي جزء من تحالف أممي في مواجهة ما يسمى (تنظيم الدولة) في العراق والشام، ومؤخراً بدأت عملية معقدة لمواجهة الاقتراب الشيعي من حدودها بعد سيطرة الحوثيين على اليمن، وسوريا والعراق تعيشان أوضاعاً قد تعصف بكيانهما على أكثر من صعيد، ولبنان يتصاعد فيها العنف الطائفي في بلد قائم على هذا التقسيم منذ استقلاله، وليبيا تحاول الخروج من كبوتها ولكنها تدخل ضمن معطيات وتناقضات تؤكد أن الحل ليس وشيكاً للأزمة، ومصر تواجه تنظيمات متطرفة عنيفة وعنيدة في سيناء، ويربط إعلامها بين هذا العنف المتصاعد وقطاع غزة، وهو أمر زاد من معاناة ومحنة الغزيين في السنوات الأخيرة، ليجد الفلسطينيون أنفسهم غارقين في (بورصة مواقف) مطلوبة منهم تجاه كل هذه الأزمات، وهذا يعني أن أي موقف يتخذوه سيعني بالضرورة تأييدهم لهذا الفريق أو ذاك، وهو ما سيترتب عليه بالضرورة دفع أثمان، والسؤال الآن: ما هي انعكاسات كل ذلك على القضية الفلسطينية وكيف سيبدو الحال في المشهد الوطني في نهاية هذه المرحلة؟
المؤكد اليوم أن هناك حالة تراجع غير مسبوقة من جهة الاهتمام العربي (الرسمي والشعبي) بتطورات القضية الفلسطينية نظراً للانشغال بالقضايا الداخلية التي أصبحت أكثر أولوية وإلحاحاً، في الوقت الذي يواجه فيه الفلسطينيون ثلاثة تحديات إستراتيجية غاية في الخطورة، فمن جهة لم تحقق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية سوى صفراً لا خلاف عليه، ومن جهة ثانية حسم الإسرائيليون أمر مستقبلهم باختيار حكومة يمينية متطرفة في الانتخابات الأخيرة للكنيست، ومن جهة ثالثة بدأت تطفو على السطح مشروعات (حتى وإن بدت خجولة) تتعلق بتطورات ما بعد الانقسام، حيث يدور الحديث عن مشروع دولة غزة ومشروع آخر للتقاسم الوظيفي في الضفة الغربية، مع ترتيبات لا تسمح بإمكانية إنشاء الدولة الفلسطينية كرؤية أخيرة للنضال الوطني الفلسطيني على مدى قرن من الزمان، وبالتالي أصبح حل الدولتين في خبر كان، وبعد كل هذا وقبله ما يزال الحال في قطاع غزة يتردى بشكل متسارع، في ظل حصار مطبق وإغلاق مستمر لمعبر رفح وتزايد معدلات الفقر إلى جانب نسبة غير مسبوقة في أعداد العاطلين عن العمل، وتلكؤ إسرائيل في ملفات إعادة إعمار غزة وملف المفاوضات التي رعتها مصر قبل وقف إطلاق النار الأخير بعد عداون تموز 2014 على غزة، وبدأت إلى جوار هذه المشاهد خطوط تحالفات إقليمية نوعية تظهر في الأفق، بعد التقارب السعودي القطري، والتقارب المصري القطري، ودخول المنطقة في شبكة تحالفات برزت في شكل العملية التي تقودها السعودية اليوم باسم (عاصفة الحزم).
كل هذه التطورات زادت حالة الارتباك في الساحة السياسية والحزبية في فلسطين، وأضعفت قدرة الفلسطينيين على المناورة أو التمكن من تشكيل غطاء قومي عربي لتحركها على المستويين السياسي والدفاعي، ومع دخول المنطقة في خيارات الأحلاف تراجعت القدرة الفلسطينية على بناء تحالفات متوازنة نتيجة لحالة الاصطفاف ضمن ما يعرف بمحور "الاعتدال" ومحور "الممانعة"، وهو أمر ألقى بظلاله على الوضع الفلسطيني، وليكون الاحتلال الإسرائيلي هو المستفيد الأكبر من كل ذلك، حيث تعيش إسرائيل اليوم حالة (ذهبية) من جهة الأمن ومن جهة القدرة على تنفيذ المخططات واستكمال المشروعات ذات الطابع الاستيطاني والتهويدي في القدس والضفة الغربية.
يمكننا التعويل كثيراً على التقارب الجديد بين العواصم المركزية في العالم العربي، حيث تبدو المملكة العربية السعودية بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز في طريقها إلى استعادة دورها المركزي في المنطقة إلى جانب استعادة مصر لمكانتها تدريجياً وهو أمر سيسمح بتشكل تحالف سعودي مصري تنضم إليه دول عربية وإسلامية كانت حتى وقت قريب في محور مخالف بما يسمح بمواجهة الأخطار التي تهدد المنطقة، مع مجال مفتوح لاستثمار قدرات وإمكانات دول أخرى في المنطقة مثل الإمارات وقطر والأردن وتركيا وباكستان، وهو أمر من شأنه أن يحقق للفلسطينيين ظهيراً قوياً في معركة ومواجهة مفتوحة بالحتم مع الحكومة الإسرائيلية التي تستعد لإدارة ظهرها لمجمل مفردات عملية التسوية في المنطقة، وبالتالي فإن القادم فلسطينياً يحمل معه آفاق أمل وإن بدا ضئيلاً في ظل هذه العتمة التي تلف جوانب المنطقة.
/ باحث في الشؤون الفلسطينية


