صبيحة اليوم الثاني من بدء عملية "عاصفة الحزم" (27/03/2015) صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأكثر التصريحات وضوحا وقوة تجاه إستراتيجية الهيمنة الإيرانية في المنطقة.
إذ لم يتوقف أردوغان عند الموقف الرسمي للدولة التركية المؤازر لعملية "عاصفة الحزم" التي قادتها المملكة العربية السعودية وحلفاؤها بتنسيق مسبق مع تركيا لمنع ميليشيات الحوثي المدعومة إيرانيا من السيطرة على مدينة عدن، بل صرح أن "السياسات الإيرانية في المنطقة أصبحت مصدر إزعاج لتركيا ودول الخليج"، وأشار أردوغان إلى ترابط سياسة التمدد الإيراني بقوله: "ينبغي أن لا نقبل بطرد داعش من الموصل لتحل محلها إيران".
إن الهاجس التركي في حقيقة الأمر كان أمرا واقعا، والجديد فيه ليس التوجس المتنامي من السيطرة الإيرانية على دول المنطقة واحدة تلو الأخرى، فذاك ترقُبه تركيا منذ زمن ويدُها تبحث عن دولة عربية فاعلة تستطيع الوقوف معها أمام هذا التمدد الإيراني المخيف. وقد سعت تركيا لتكون مصر خلال فترة الرئيس مرسي مرتكز هذه الإستراتيجية.
لكن الجديد هو التقارب السعودي التركي الذي مهدت له زيارة أردوغان الأخيرة إلى الرياض وما نتج عنها من توافق سياسي في مجمل قضايا المنطقة، والأهم في تلك الزيارة التاريخية هو توافق وجهات النظر السعودية التركية القطرية حول ضرورة الوقوف من جديد مع ثورة الشعب السوري ورفض محاولات تجميل نظام الأسد بحجة الحل السياسي الذي تتبناه مصر بدعم إماراتي روسي، وهذا يعني خروج المملكة ولو تدريجيا من حلف الثورات المضادة المدعوم إيرانيا.
الاصطفاف التركي السعودي وراء عاصفة الحزم التي هي في جوهرها حرب على ذراع من أذرع إيران في المنطقة يبعث برسالة بالغة الدقة في هذا الظرف؛ مؤداها أن تحالفا جديدا يتبلور، أضلاعه تركيا والسعودية وقطر، ونقطة ارتكازه إيقاف التمدد الإيراني إن لم نقل محاربته وتحجيمه؛ وكانت اليمن نقطة البداية ومن المؤكد أنها ليست النهاية.
العداء التاريخي بين العثمانية والصفوية طويل وعميق وما زال حاضرا بقوة في أذهان صانعي القرار في أنقرة وطهران. الخلاف بين قطبين كبيرين، مثل تركيا وإيران في بيئة جغرافية سمتها تاريخيا التداخل والتعقيد، صاغ علاقة مركبة تتداخل فيها المصالح المشتركة جغرافيا وسياسيا واقتصاديا مع عوامل الاشتباك والاضطراب التي يغذيها تناقض الموروث والمذهب والجذور التاريخية والتجاور في حيّز جغرافي يتقاسم فيه الطرفان عوامل التأثير الحضاري والامتداد الديمغرافي والمذهبي ونطاق التحرك والنفوذ.
* سوريا.. والموقف من الربيع:
منذ الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 وما صاحبه من نفوذ إيراني مطلق على حدود تركيا الشرقية، خيم التوتر السياسي وتناقض المصالح من يومها على العلاقات التركية الإيرانية في بلد له مقدرات هائلة حضارية واقتصادية واجتماعية.
هنا لا ننسي أن العراق يجمع كركوك الغنية بالنفط ذات الحضور التاريخي والرمزي لتركمان العراق مع النجف وكربلاء بما يحملانه من رمزية تاريخية ومذهبية لإيران والمنطقة.
توترت العلاقة ولكن تأثيرها على مجمل العلاقات التركية الإيرانية ظل محدودا خاصة في موضوع الطاقة والتبادل التجاري. موقف البلدين من "الربيع العربي" كان متناقضا في خطه الإستراتيجي من البداية وحتى النهاية، حيث ظهر جليا كيف أن إيران شريك وحليف لتيار الثورة المضادة منذ بداية التحرك الفاعل لهذا التيار بعد الانقلاب العسكري في مصر.
لكن التناقض الصارخ بين أنقرة وطهران تجاه قضايا الربيع العربي بلغ أوجه عندما بدأ الشارع السوري في التحرك ضد النظام في دمشق، ليتطور الأمر في النهاية إلى شلال دماء وبراميل مميتة، لإيران ولحرسها الثوري اليد الطولي في تدفقها وصناعتها.
سوريا بالنسبة للحسابات الإستراتيجية التركية خاصرة وعمق وامتداد وأكراد على طرفي الحدود ومعاناة إنسانية. ما كان لتركيا أن تقف مكتوفة الأيدي أمام مأساة الملايين.
لإيران سيطرة كاملة على المشهد السوري ولها أذرعها الخفية والظاهرة على امتداد الجغرافيا السورية، لهذا يرى مراقبون أتراك أن أزمة مدينة "كوباني - عين العرب" الأخيرة وما رافقها من تداعيات على الوضع التركي داخليا وإقليميا ودوليا كانت في الحقيقة شرَكا شاركت فيه إيران وأطراف أخرى نُصب بعناية لجر الحكومة التركية إلى ذاك المستنقع المعقد الخطير.
* اليمن.. فرصة التقارب:
يرى الكاتب التركي في صحيفة يني شفق المقربة من الحكومة التركية، إبراهيم كاراجول، أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة لعدد من الدول الأفريقية في الجوار اليمني مع انطلاقة التوسع الحوثي الجديد كانت مقصودة وأرسلت رسائل متعددة لجهات مختلفة في مقدمتها إيران، ويعتقد أن زيارة أردوغان لإفريقيا من بوابة جيبوتي وإثيوبيا، والتركيز التركي الواضح على بناء مؤسسات الدولة في الصومال يرسل رسالة واضحة لطهران؛ مفادها نحن هنا في القرن الإفريقي وفي منطقة البحر الأحمر وفي أهم ممرات الطاقة.
يتفق أغلب المحللين الأتراك أن "عاصفة الحزم" ضد الحوثيين في اليمن أضافت بؤرة جديدة لمناطق الصراع المحتدم بين مشروع التوسع الإيراني والإستراتيجية التركية، وأنها كانت من أهم العوامل في تسريع وتيرة التقارب السياسي بين أنقرة والرياض بعد أسابيع من زيارة أردوغان للسعودية.
* تركيا ومنطق الوسط:
لتركيا مصالح إستراتيجية في السوق والغاز الإيرانيين، ومن خلال تركيا تأخذ إيران نفَسا يخفف من وطأة الحصار المفروض منذ سنوات؛ كما إن تركيا بوابة تحرص طهران قبل أنقرة على إبقائها مفتوحة في محيط حولته البنادق والبيادق الإيرانية إلى نار طائفية تتقد كلما انفجر برميل أسدي فوق رؤوس أهل حماة وحلب أو نكلت فيه ميليشيات "الحشد" الشيعي في العراق بنساء ورجال السنة المغدورين.
يعتبر الكاتب التركي المختص في شؤون المنطقة، عارف كسكين، أن العلاقات التركية الإيرانية دخلت مرحلة الخطر الشديد بعد "عاصفة الحزم"، إذ كلما ازداد التقارب السعودي التركي اتسعت الهوة بين تركيا وإيران، ويرى أن من مصلحة تركيا أن تتكلم بلغة جديدة وتشق لنفسها طريقا ثالثا بين ثنائية السنة والشيعة.
المتأمل في أزمات المنطقة يجد أن العراق وسوريا ولبنان واليمن تعدَ من أهم بلدان ما يسميه الأتراك بتحمل المسؤولية تجاه "الجغرافيا العثمانية"، باعتبارها ثابتا من الثوابت، وهي ذات الدول التي امتدت إليها يد النفوذ الإيراني خلال السنوات الأخيرة وكانت اليمن آخر حلقاتها.
ورغم اتساع دائرة الصراع بين أنقرة وطهران، جغرافيا وسياسيا، مما يسهل تشكيل تحالف تركي سعودي في المنطقة، لم يرتفع سقف توقع كثير من المحللين الأتراك من زيارة أردوغان الأخيرة للسعودية وخلصوا ساعتها، قبل عاصفة الحزم، إلى أن إحياء العلاقة من جديد مع المملكة سياسيا، والأهم اقتصاديا، هو المدى الذي يمكن أن تصل إليه نتائج الزيارة.
الإحياء وإذابة الجليد وليس التقارب بلهَ التحالف، سقفٌ يستبطن صعوبة التحالف الجاد والسريع بين مشروع تركيا المفعم بالإرث العثماني والعمق الصوفي والطبعة الحنفية من التسنن، مع سياسة المملكة بمدرستها الوهابية القائمة على تمثيل الأمة وأحقية ريادتها للعالم الإسلامي.
قد لا يكون هذا عامل تناقض بين سياسات الدول، إذ المصالح الكبرى تطوي مثل هذه التفاصيل، ولكن العامل الديني "التمثيلي" مهم جدا في سياسة البلدين نظرا للخلفية والإرث وأيديولوجيا "المكانة".
بعد التقارب السعودي التركي المتنامي وبعد عملية "عاصفة الحزم" التي تستهدف ذراعا ضاربة من أذرع إيران في المنطقة وبعد المواقف واللهجة التركية القوية تجاه سياسة الهيمنة الإيرانية في المنطقة، من المتوقع أن يزور الرئيس أردوغان طهران بعد أيام حاملا في جعبته أهم ملفات المنطقة وفي صلبها نفوذ إيراني يكاد يُطبق على مصادر وممرات الطاقة الإستراتيجية.
من الصعب تحليل العلاقة التركية الإيرانية حاليا بمعزل عن العلاقات التركية السعودية المتنامية في ضوء تصور سعودي جديد يرى في تركيا أهم سند لا بد من الاعتماد عليه في مواجهة المشروع الإيراني في المنطقة.
قد لا يروق لبعض خصوم العدالة والتنمية هذا التقارب الجديد، حيث تعتبر الكاتبة التركية في صحيفة الزمان المقربة من جماعة "الخدمة" التي يتزعمها فتح الله كولن، لاله كمال، أن تصريحان أردوغان الرافضة للهيمنة الإيرانية والداعمة بقوة للاصطفاف التركي مع الحلف العربي السني في "عاصفة الحزم" غير محسوبة سياسيا ولا تراعي حجم إيران وقوتها في المنطقة.
ليس واضحا، على الأقل الآن، مدى عمق ومتانة التقارب السعودي التركي الجديد، ولا أي مستوى يمكن أن تستقر عليه العلاقات بين طهران وأنقرة، لكن الواضح أن أنقرة حسمت أمرها باتجاه الدخول في إستراتيجية المواجهة مع إيران، وذلك بأسلوب الخطاب السياسي غير الطائفي المعتمد على حماية المصالح الإستراتيجية للدولة التركية وحلفائها.
بين يدي زيارة الرئيس أردوغان استطاعت طهران أن توقع "تفاهمات" مهمة مع دول الغرب، ليس المهم فيها أعداد أجهزة الطرد ولا نوع هذا المفاعل ولا ذاك، بقدر ما كان الأهم فيها، كما يرى بعض المتابعين، أن تكون إيران نفسها عنوان "الطرد المركزي" في المنطقة، وذاك موقع جديد سيحتم على تركيا صياغة رؤية جديدة تتناسب مع خريطة إعادة الانتشار الآخذة بالتشكل في المنطقة.
كاتب مختص في الشؤون التركية


