خبر : يوميات صحافي في ملحمة مخيم جنين معارك: بطولية وصمود وشهداء ارتقوا نازفين

الأحد 05 أبريل 2015 07:59 ص / بتوقيت القدس +2GMT
يوميات صحافي في ملحمة مخيم جنين معارك: بطولية وصمود وشهداء ارتقوا نازفين



مخيم جنين - محمد بلاص: مساء يوم الثلاثاء الثاني من نيسان عام 2002، كنت قد عقدت العزم على مغادرة بيتي في الجهة الغربية من مخيم جنين، إلى بيت شقيقي الأكبر بسام في حي «الهدف» غربا، شعورا مني بخطورة الموقف، بعد أن بدأت قوات الاحتلال تعد العدة لغزو المخيم.
أمضيت ليلة واحدة هناك برفقة طفلي «مجاهد» الذي كان في ذلك اليوم قد أتم العامين من عمره، في ليلة شعرت أنها الدهر كله، بعد أن أصرت زوجتي ووالدتي واثنان من أشقائي على البقاء داخل المخيم.
ولم تكد أشعة صبيحة اليوم التالي تشرق، حتى قررت العودة إلى المخيم، ليس من أجل الموت، وإنما من أجل أشقائي وأهلي ممن لم أكن لأستطيع أن أكون بمأمن بينما هم في دائرة الخطر المحتم.
في طريق العودة سيرا على الأقدام، كان جيش الاحتلال قد أنهى حشد قواته، وأحكم الحصار على المخيم المستهدف بالاغتيال، ففي كل مكان كانت تنتشر الدبابات وناقلات الجند المصفحة، وتنصب بطاريات الصواريخ والمدافع، وكلها مصوبة نحو المخيم.
ما إن وصلت البيت، حتى كان أمامه عدد من المقاتلين، يأخذون مواقع لهم في الجهة الغربية التي كانوا على يقين أن تكون محاولة الاقتحام الأولى للمخيم منها، باعتبارها الأكثر عرضا من حيث المساحة وكان الأمر كما توقع هؤلاء.
كثيرون طلبوا منا في ذلك اليوم، عدم المبيت في منزلي، لكونه يقع في مقدمة المخيم، وهناك احتمالات أكيدة لأن يتعرض للقصف، عندما تبدأ المعارك.
وتحت ضغط كبير من هؤلاء، قررت الانتقال بأفراد أسرتي، إلى منزل شقيقي الذي يصغرني سنا، والذي يقع بجوار منزلي، ولكنه محمي إلى درجة معينة من القصف.
في ذلك البيت نمنا ليلة واحدة كانت مرعبة بسبب كثافة النيران من جانب جيش الاحتلال حتى صبيحة اليوم التالي، وقد اندلعت المعارك، وتركزت على مدار الأيام الثلاثة الأولى في المنطقة التي أقطنها.
ولم يكد الوقت يقترب من العصر، حتى شعرنا أن البيت حيث انتقلنا يهتز من الداخل، بعد أن أصاب الطابق العلوي منه صاروخ مروحية أو قذيفة دبابة.
شعرت بخطر كبير، فقررت الخروج وبرفقتي أمي العجوز، واثنان من أشقائي، إلى جانب زوجتي وطفلي، وساعدني في ذلك بعض الشبان.
الطريق الوحيدة للخروج من البيت، كانت فقط عبر نافذة خلفية، قفزنا منها الواحد تلو الآخر، ومن ثم بدأنا نركض على غير هدى، حتى أرشدنا بعض الشبان، إلى منزل قريب من منطقة وسط المخيم، يعود لأحد أقارب والدتي، حيث مكثنا لعدة ساعات، ثم طلبت من شقيقي الذي يكبرني سنا «غسان»، ووالدتي البقاء في ذلك المنزل، على أن أخرج برفقة زوجتي وطفلي متوجهين إلى منزل وسط المخيم، كان شقيقي الأصغر «عبد الحكيم»، يتواجد فيه، بحكم علاقة النسب التي كانت تربطه بأصحابه.
تضاريس مجهولة
صحيح أنني ولدت وتربيت في مخيم جنين، ولكني في ذلك اليوم تحديدا، شعرت أنني جاهل بتضاريسه، حيث أرشدني شبان إلى طرق ضيقة لم أسلكها يوما في حياتي.
كانت الطريق جد مرعبة، ومن غير المعقول أن يغامر أي شخص عاقل، بالخروج من منزل لجأ إليه، إلا إذا كان مضطرا لذلك، فالصواريخ والقذائف والرصاص الثقيل كان يضرب في كل مكان بالمخيم الذي كان مسرحا لاشتباكات مسلحة عنيفة، بين رجال المقاومة والجيش الإسرائيلي.
كنت في تلك اللحظات، أحمل ابنتي هبة «ثلاث سنوات»، وشقيقي غسان يحمل ابني مجاهد، بينما كانت زوجتي تحمل حقيبة وضعت بداخلها بعضا من الأشياء المهمة للطفلين، وثلاثتنا كنا نركض على غير هدى، لدرجة شعرنا فيها أننا كدنا نقتل عشرات المرات في الطريق.
بشق الأنفس وصلنا إلى منزل أبو خالد وسط المخيم، وقد اعتقدت لساعات قليلة، أنني وصلت إلى المكان الأكثر أمنا، لكونه من أكثر أحياء المخيم كثافة سكانية، وخيل لي أن جيش الاحتلال لن يقدم على قصفه بأي نوع من أنواع السلاح، ذلك أن أي قصف قد يتعرض له من شأنه أن يفضي إلى كارثة.
القصف يتواصل
اعتقادي ذلك لم يكن على الإطلاق في محله، فلم يكد يمضي يوم واحد حتى امتد القصف الإسرائيلي ليشمل ذلك الحي ولكن على نحو متقطع.
أرشدنا صاحب المنزل إلى غرفة بداخله، قال إنها محصنة وقديمة، ولن يحدث لها أي شيء، حتى ولو هدم المنزل بكامله.
في اليوم التالي، اتصل معي عبر الهاتف النقال زميل لي أراد الاطمئنان على سلامتي، ولم يكن الالتقاط داخل الغرفة «المحصنة»، سليما، ما دفعني إلى الصعود على درج المنزل.
وخلال تلك المكالمة التي كانت قصيرة، شعرت أن المنزل يهتز، فقد أصاب صاروخ مروحية الطابق الثالث منه، فاشتعلت النيران فيه، وهو ما اضطرني إلى العودة مسرعا إلى الغرفة، ألتقط أنفاسي، فقد شاهدت الموت لحظتها.
في ساعات المساء، كان شقيقي عبد الحكيم يجلس برفقة خطيبته، في غرفة الضيافة، فأصابني شعور غريب دفعني إلى التوجه لهما بطلب الخروج من تلك الغرفة المحاذية للشارع، والجلوس معنا، وذلك عن طريق الممازحة.
ولم نكد نصل الغرفة «المحصنة»، حتى اخترق صاروخ لم نشاهد سوى وهجه، غرفة الضيافة ليصل إلى منزل مجاور وملاصق للمنزل الذي لجأت إليه، يعود للمواطن صلاح العمار الذي كان يستخدمه إلى جانب السكن، كبقالة بداخلها جرار غاز.
كان عددنا في تلك اللحظات نحو 30 معظمهم من الأطفال والنساء، إلى جانب عجوز تعاني من مرض القلب.
غبار الصواريخ
الغبار الكثيف المنبعث عن الصاروخ ملأ الغرفة، لدرجة كنا نلتقط فيها أنفاسنا بصعوبة، فوضعت واحدا من أطفالي في حضني، والثاني مع زوجتي.
طلب منا صاحب المنزل، عندما شعر بالخطر، أن نقرأ جميعا سورة «الفاتحة» وننطق الشهادتين، اعتقادا منه أننا سنموت لا محاولة من كثافة الغبار، في وقت كانت النيران تشتعل بالمنزل المجاور، اعتقدنا أنها ستمتد إلى حيث نلتجئ، وليس بإمكاننا إخماده، لسبب بسيط هو عدم توفر المياه.
كانت تلك ليلة طويلة جدا، قرأنا فيها سورة «الفاتحة»، ونطقنا الشهادتين لعشرات المرات، من كثرة الصواريخ التي أطلقتها المروحيات على المنطقة التي كنا فيها، وبعضها أصاب المنزل الذي كنا مختبئين بداخله.
في تلك الليلة التي لم يغمض لأحد منا فيها جفن، حتى الأطفال، كان صاحب المنزل يحاول التخفيف عنا كلما يضرب صاروخ منزله، وهو يقول «ما تخافوش كلها كتة غبرة، مش رايح تأثر على الدار».
كنت أؤيده ظاهريا في كلامه، حتى لا أثير المزيد من الرعب في قلوب الأطفال والنساء ممن كانت نبضات قلوبهم، تكاد تسمع.
مشهد محزن
مشهد لن أنساه طيلة حياتي في تلك الليلة، طفلة لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها، ألقت بجسدها الصغير إلى حضن والدتها، وهي تصرخ باكية، «ميشان الله ياما فليني، شاعر إنه راسي كله شاب»، فترد عليها الأم التي لا حول لها ولا قوة، بالقول والدموع تنساب من عينيها، «ما تخافيش ياما، الله يهونها، إن شاء الله».
ذات الطفلة، كانت كلما تسمع هدير مروحية، تدرك أن صاروخين أو أكثر حتما سيسقطان في المكان، فتبدأ بالصراخ من جديد، وهي تؤشر بيديها الصغيرتين، وتقول «يا الله بسرعة إنزلن بكفي».
في اليوم الرابع من المعركة، شاهدت الشهيدة مريم وشاحي، تحمل بين يديها طنجرة طبيخ، أعدتها للمقاتلين، فأرادت أن تعبر الشارع، دون أن تكترث للصواريخ والقذائف والرصاص الثقيل الذي كان يتساقط على كل شبر من أرض المخيم.
أحد المقاتلين لمح الشهيدة التي كانت تواظب على تزويد المقاتلين بالطعام والشراب، منذ اليوم الأول من المعارك، فطلب منها عدم عبور الشارع، خشية منه على حياتها، ما دفعها إلى التريث قليلا، والإلقاء بما كانت تحمله إلى عرض الشارع.
في تلك اللحظات، قفز أحد الشبان، مسرعا فالتقط طنجرة الطبخ، وعاد بها خلال ثوان قليلة، في منظر كان جد رهيب، ومحاولة كان من الممكن أن تكون نتيجتها استشهاد ذلك الشاب الذي عاد فرحا، بعد أن نجحت المحاولة.
وفي اليوم التالي، عاودت وشاحي الكرة، ولكن الشبان ضغطوا عليها أن لا تقترب أو تعبر ذات الشارع، وهم يطلبون منها أن لا تغامر، بينما كانت ترد عليهم بالقول، «ولو حياتي أغلى من حياتكم»، حتى استجابت أخيرا لضغوطهم.
ولكن في حقيقة الأمر، لم يكن منطلق الشبان الخشية على حياة الشهيدة، وإنما حرصا منهم أن لا تقترب من المكان الذي كان يرقد فيه نجلها شهيدا، بعد أن أصابته عدة رصاصات، وحال الجيش الإسرائيلي دون تمكين الأهالي من نقله إلى المستشفى، حيث بقي ينزف حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
ولم تكن الأم تعلم، في تلك اللحظات، بنبأ استشهاد ابنها الطالب في الثانوية العامة، حتى التحقت به بعد يومين أو ثلاثة عندما أصابتها رصاصة قناص إسرائيلي في مقتل، أمام زوجها وطفلها الصغير.
بعد أقل من ساعة، استأنفت المروحيات القصف المركز بالصواريخ والرصاص الثقيل، وكان القصف يتركز على منطقة وسط المخيم، حيث كانت مجموعات من المقاومين تتحصن، بينما كانت أخرى تجابه الجيش الإسرائيلي في أكثر من محور.
استئناف القصف، دفعنا لأن نعود مرة أخرى، إلى الغرفة «المحصنة»، وقد زاد عددنا، بعد أن لجأت المزيد من النساء برفقة أطفالهن، إلى المنزل، جراء تعرض مساكنهن للقصف والتدمير الكلي.
.. هكذا تصرف المقاتلون
في ذات اليوم «الرابع»، لمحت أربعة من المقاتلين، يركضون بدون اتجاه، وهم يحملون سيدة عجوز على نقالة إسعاف، حيث كانوا يبحثون عن طبيب لمعالجتها، بعد أن أصابت جسدها شظايا صاروخ إسرائيلي.
صرخت سيدة بهؤلاء، وهي تطلب منهم النجاة وترك العجوز في أقرب منزل، إلا أنهم رفضوا ذلك حتى غابوا عن الأعين.
وعلى مدار الأيام الخمسة الأولى، وتحديدا خلال ساعات الليل، كان المقاومون ينطلقون على شكل جماعات، يتفقدون أحوال الأهالي في المنازل، ويطلقون صيحات «التكبير»، من أجل رفع معنويات الأهالي.
في اليومين الخامس والسادس، كان القصف متواصلا، ولم يهدأ في الليل أو النهار، حتى سمعنا صوتا من بعيد، اعتقدنا أنه إعلان من جانب الجيش الاحتلال عن الانسحاب من المخيم.
قرار الخروج
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، فانتقلت عندما شعرت بحركة للشبان هناك، إلى منزل المواطن خليل النورسي، حيث تجمع ما لا يقل عن عشرين شابا، أجرى بعضهم اتصالات هاتفية مع أحد المسؤولين الفلسطينيين الذي أبلغهم بدوره أن هناك تقديرات أن الجيش الإسرائيلي بدأ ينسحب من المخيم، وهو ما جعلهم في غاية الفرح والسعادة.
ولم تكد تمض ساعة واحدة على ذلك الاتصال، حتى شعرنا أن إحدى طاقات جهنم قد فتحت على المنطقة التي كنا متواجدين فيها، ليتبين لنا في صبيحة اليوم التالي أن الصوت الذي سمعناه، كان صادرا عن جيش الاحتلال يطلب من الأهالي جميعا الخروج من منازلهم، على وجه السرعة.
أربع مروحيات قتالية على الأقل، كانت تطلق الصواريخ ومن ثم الرصاص الثقيل، على المنطقة، فتفرق الشبان مرة أخرى، بينما عدت إلى المنزل المخبأ، وقد أصبحت جدرانه آيلة للسقوط، والنيران تشتعل في أجزائه العلوية.
ولم أصدق أن تلك الليلة انقضت، وأشرقت شمس اليوم التالي، ونحن على قيد الحياة، فاتخذت قرارا بالخروج من المنزل.
إلا أن أحد الذين كانوا معنا تحت القصف، تردد بعض الشيء، فسألته، («هل تشك أننا جميعا سنقتل ؟!»، أجابني بكلمة «لا»، فقلت له إنني على قناعة تامة أنني سأقتل، ولكن أفضل أن أقتل في الشارع، فربما تبقى جثتي، على أن أقضي تحت ركام هذا المنزل).
كان قرارا يحمل الكثير من المجازفة، ولكني كنت مضطرا لاتخاذه، ذلك أنني كنت أشعر حينها أن كل طفل وامرأة في ذلك المنزل من مسؤوليتي الشخصية، ولم يعد الأمر يقتصر علي وعلى شقيقاي وزوجتي وطفلاي.
حملت «مجاهد»، وزوجتي حملت «هبة»، وقد أردت أن نكون الاثنان في مقدمة من يخرجون، وعندما أردنا فتح باب المنزل، أصابه صاروخ، فاندفعنا من شدة الخوف إلى ذات الغرفة التي كنا نختبئ فيها.
وسرعان ما عدت وتمالكت نفسي، وطلبت من الجميع الخروج من المنزل بسرعة، حتى لا يتساقط على رؤوسنا، فنقضي تحت الركام، ذلك أن بقاءنا بداخله حتما سيؤدي إلى مقتلنا، أما خروجنا منه إلى الشارع، فذلك يعني أن هناك احتمالات ولو أنها ضئيلة لأن نبقى على قيد الحياة.
خرجت وبرفقتي زوجتي وكل منا يحمل واحدا من الطفلين، في مقدمة ما كانوا برفقتنا تحت القصف، في لحظات كانت أصعب من الموت، ونطقنا فيها الشهادتين لمرات كثيرة.
من زقاق بالجوار، أطل علينا جندي إسرائيلي كان واحدا من بين قوة من المشاة، صوبوا جميعا أسلحتهم نحونا، فاعتقدنا أنهم سيطلقون النار علينا، حتى طلب منا ذلك الجندي بصوت عال أن نضع أيدينا فوق رؤوسنا، ونسير باتجاه الغرب إلى ساحة المخيم.
نيران مشتعلة
فعلنا ما طلبه الجندي، وسرنا من وسط المخيم الذي اختفت معالمه، والنيران كانت تشتعل في الكثير من منازله، حتى استوقفني صوت المهندس علي نشرتي الذي طلب منا الانتظار، حتى يخرج من منزل عائلته، برفقة أشقائه وأبنائهم وزوجاتهم.
وانضمت إلينا عائلة نشرتي، وسرنا معا لعدة أمتار، حتى استوقفتنا مجموعة من الجنود الإسرائيليين، كانت تحتل منزل المواطن أبو علي عويس، قبل هدمه بالكامل.
وطلب الجنود من النساء والأطفال بالتوجه إلى ساحة مسجد المخيم، أما الرجال فالبقاء في «الساحة» المدمرة، ومن ثم طلبوا منا أن نبدأ بخلع ملابسنا، وتفتيشنا الواحد تلو الآخر.
عندما دخلت إلى المنزل، حتى يكبلني الجنود، كما هو الحال بالنسبة للآخرين، شاهدت جثة عارية ملقاة على أرضية ذلك المنزل، وعلى منطقة الوجه قطعة من جريدة عبرية، تبين بعد نحو ساعة أنها جثة الشهيد جمال الصباغ الذي قتله الجنود بدم بارد، قبل أن تدهس جثته آلية ثقيلة حولتها إلى قطع متناثرة.
.. قتلوا حمامة بيضاء وفرسا
ونحن محتجزون في الساحة، سقطت من السماء حمامة بيضاء اللون على مقربة منا، حيث ماتت، في وقت كانت من حولنا فرس عربية بيضاء، مصابة عالجها أحد الجنود بعدة رصاصات أردتها قتيلة.
عندما انتهى الجنود من تكبيلنا، وضعونا أمام منزل يعود للمواطن حسين الراجح، هدم في وقت لاحق من قبل البلدوزرات الإسرائيلية، وكان عددنا يتجاوز الأربعين، لحسن حظنا أن قطعا من الصفيح كانت فوق رؤوسنا.
في تلك اللحظات، بدأ الجنود يغلقون أبواب المنزل المحتل، وبنادقهم مصوبة علينا من النوافذ، وهم يضحكون بصون مرتفع، فأدركت أن شيئا ما أجهله قد يودي بحياتنا جميعا.
وبالفعل، أطلقت إحدى المروحيات صاروخا، سقط على بعد نحو سبعة أمتار عن المكان الذي كنا محتجزين فيه، فتناثرت الشظايا والحجارة الكبيرة مرتطمة أجزاء منها بقطع الصفيح التي كانت فوق رؤوسنا، والتي لو لم تكن موجودة لكنا جميعا الآن تحت التراب.
عند ذلك بدأت النساء اللواتي كن برفقتنا، وعدن ليبقين معنا، لنواجه معا ذات المصير، بالصراخ على الجنود، حتى طلبوا منا التوجه إلى ساحة مسجد المخيم.
دروع بشرية
كان أحد المحتجزين معنا يعاني من مرض في ظهره، لا يمكنه من السير بمفرده دون مساعدة، فقمت بمساعدته برفقة أحد الشبان، وهو ما جعل ثلاثتنا نتأخر عن المجموعة، فاستوقفنا أحد الجنود طلب منا الوقوف أمامه، أمام مقهى المخيم، حيث كانت المنطقة تشهد اشتباكات مسلحة عنيفة.
شعرنا الثلاثة أننا سنقتل لا محالة، عندما أصر الجندي على استخدامنا كدروع بشرية، حتى حضر جندي آخر من المقدر أنه كان الضابط المسؤول عن ذلك الجندي، فسأله عن أسباب توقفنا، ليرد عليه الجندي بالقول، «دعهم يقتلون برصاص (المخربين)».
نقاش دار بين الجندي والضابط، توجه إلينا بعد انتهائه الضابط، ليطلب منا مغادرة المكان، وقد قدم لنا إرشادات حول الطريق التي يجب أن نسلكها، حتى نصل إلى حي «الزهراء» شمال المخيم، حيث كان العشرات من الشبان محتجزين، إلى جانب النساء والأطفال.
وحتى ساعات المغرب، احتجزنا الجنود مكبلين، ومن ثم طلبوا منا السير على الأقدام، وأمامنا مدرعة ووراءنا أخرى، حتى وصلنا إلى مخازن «فيكتور»، على شارع جنين حيفا غربا، حيث كان جنود الاحتلال يستخدمون تلك المخازن كمركز للاعتقال.
اعتقدت أن المسألة لا تعدو عن كونها تدقيقا في البطاقات الشخصية الخاصة بنا، وإذا كان هناك ثمة «مطلوبين» بيننا يجري اعتقالهم، بينما يطلق سراح الآخرين.
إلا أن الأمر كان مغايرا تماما، حيث لم يدقق الجنود بالبطاقات الشخصية، فأعادوا تكبيلنا جميعا ووضع عصبات على أعيننا، بعد أن طلبوا من النساء ومن لا تزيد أعمارهم عن 15عاما، ولا تقل عن 45عاما، بأن يتدبروا شؤونهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، بينما كان الاعتقال من نصيب المتبقين الذي كنت أحدهم.
في مخازن فيكتور
في ساعة متأخرة من ليلة الاحتجاز في مخازن «فيكتور»، سمعت مشادة كلامية باللغة العبرية بين جنديين، أحدهما حضر إلى هناك على ما يبدو من المخيم، وهو في حالة عصبية، ففهمت من خلال المشادة أن الجندي الغاضب عاقد العزم على قتلنا، ثأرا لصديقه الذي يقدر أن يكون قتل في المخيم.
قلت في داخل نفسي، وحدثت شابا بجانبي كان مكبلا ومعصبا مثلي، «يبدو أن أحدنا أو كلنا سنقتل الآن، فنطقت مرة أخرى الشهادتين، حتى سمعت صوت رصاصة يضرب في سقف المخزن، فرفعت العصبة عن عيني، لأشاهد الجندي الحارس يرفع سلاح زميله الغاضب نحو الأعلى، وهو يطلب منه مغادرة المكان».
في ساعات الصباح، حضرت حافلة إسرائيلية إلى المخازن، بدأت بنقلنا إلى حاجز «سالم» العسكري المقام على مدخل الخط الأخضر غرب جنين.
تنكيل في «سالم»
عندما وصلنا إلى حاجز «سالم»، أبلغت الضابط المسؤول أنني صحافي، اعتقادا مني أن مهنتي تلك ستحول دون اعتقالي، فكان رد الضابط، «شو يعني .. طز!!».
في ذلك المكان، أعادوا تكبيلنا بشدة، وتعصيب أعيننا، ووضعونا في ساحة أرضيتها خشنة، ومحاطة بالأسلاك الشائكة، على مدار ثلاثة أيام، كانوا يلقون خلالها قطعا صغيرة من الخبز على الأرض.
في الليلة الأولى، وقد أصابني الإرهاق الناجم عن عدم النوم، لعدة ليال في المخيم، جراء القصف، غلبني النعاس، فقررت النوم، حتى أيقظني حذاء شرطي إسرائيلي، ضرب ظهري، وهو يقول لي، «صحافي .. عمليات استشهادية !!»، قبل أن يعاود الضرب مرة أخرى، حتى أوصلني إلى ما بين الأسلاك الشائكة، ونزل الدم من أطرافي.
وكان الضرب المبرح من نصيبي على مدار الأيام الثلاثة من الاعتقال في حاجز «سالم»، حتى مرحلة الاستجواب من قبل ضباط المخابرات الإسرائيليين الذين سألني أحدهم عن رأيي في ما يحدث في مخيم جنين، فقلت له، «إنكم ترتكبون المجازر، وتهدمون البيوت على رأس السكان، وتقتلون النساء والأطفال …».
وقاطعني ضابط المخابرات بالقول، «بإمكاننا أن نزيل مخيمكم عن وجه الأرض .. من أنتم ليقتل جنود جيش الدفاع بقنابلكم، الأفضل لكم أن تخرجوا من هذه البلاد، فهي لن تسعنا معا، اذهبوا إلى مصر أو الأردن، إنكم عرب مثلكم مثلهم، وهم أحمل بكم منا ؟؟!!».
في تلك الأثناء، دخل ضابط آخر، على صراخ زميله الذي بدا في حالة عصبية، فسألني ذلك الضابط عن اسم عائلتي، فأبلغته «بلاص»، ليعود ويسألني عن صحافي اسمه محمد بلاص، فرددت عليه بالقول «أنا»، فتوقف أمامي وهو يقول «عمليات استشهادية ؟؟!! أنت من مخيم جنين، هل تعلم أن بيتك مسح عن وجه الأرض ؟؟ ستكتب عن المخيم للتاريخ».
مرحلة الاستجواب تلك كانت قصيرة نسبيا، أبلغني في أعقابها ضابط المخابرات بقرار الإفراج عني، ولكن بشرط عدم العودة إلى المخيم، إلا عندما يعلن الجيش الإسرائيلي عن انسحابه.
النفي إلى رمانة
وكان النفي إلى قرى محاذية للخط الأخضر، المرحلة التالية، حيث تلقى كل شاب من المخيم أفرج عنه من «سالم»، تهديدا بالاعتقال والنقل إلى معتقل «النقب»، إذا ما ألقي القبض عليه مرة أخرى، وهو يحاول العودة إلى المخيم.
في قرية رمانة كانت المحطة التالية، حيث مكثت برفقة المئات من الشبان، لنشكل بمجموعنا ما نسبته الثلث من عدد سكان تلك الصغيرة التي امتلأت مساكنها بنا.
كانت المدة المحددة لكثيرين منا من قبل ضباط المخابرات الإسرائيليين، ثلاثة أيام، نعود بعدها إلى المخيم.
ولكن الأيام تلك طالت، فتجاوزت العشرة، لدرجة بتنا نشك فيها أننا لن نعود إلى المخيم للأبد، بعد حاولنا لعدة مرات العودة، ولكن الآليات والدوريات العسكرية الإسرائيلية، كانت لنا بالمرصاد.
وأتذكر في ذات ليلة كنت فيها منهك القوى، ولم أصدق أنني نائم على الفراش، حتى أيقظني من النوم الزميل وائل الأحمد الذي غمرني وزوجته أم صخر بمعروفهم، فطلب مني أن أصعد معه إلى سطح منزله.
هناك كنت أنظر من على بعد عشرات الكيلومترات إلى المخيم، وقد أنارت القنابل الضوئية سماءه، وكانت تسمع من بعيد أصوات انفجارات، فأصابني الندم لأنني خرجت، وكم تمنيت لو بقيت هناك.
سبب تلك الأمنية كان أنني عندما كنت في المخيم، تحت القصف، كنت على أقل تقدير أعرف ماذا يجري هناك، ولكن في رمانة ومن المشاهد التي رأيتها من على سطح أبو صخر، أدركت أن المخيم قد محي من على وجه الأرض.
في تلك القرية التي كان مزارا لأعضاء الكنيست العرب، وقادة القوى السياسية العربية داخل الخط الأخضر، ومحطات التلفزة ووسائل الإعلام العالمية، سمعنا الكثير من الوعود من كل من زارنا، وكلهم كان يعدنا بالعودة إلى المخيم، في أسرع وقت.
ولكن الأيام كانت تمر، وكثيرون منا لم يكونوا يعرفون مصير عائلاتهم، وكنت واحدا من بين هؤلاء، حيث واجهت صعوبات كبيرة في معرفة ما حل بزوجتي وطفليّ ووالدتي التي افترقت عنها في اليوم الأول من القصف.
وبعد عناء، عرفت أن زوجتي والأطفال ومعها خطيبة أخي عبد الحكيم، أصبحن نزيلات جمعية جنين الخيرية، ومن ثم انتقلن إلى منزل الزميل علي سمودي الذي ذهب لإحضارهن من هناك إلى منزله في المدينة.
أما بالنسبة لوالدتي، فسمعت الكثير من الروايات عنها، فقد حدثني أحد الشبان أنها قد استشهدت عندما أصاب صاروخ المنزل الذي لجأت إليه، حتى تبين لي بعد عدة أيام أنها لم تصب بأي أذى، ووصلت إلى منزل شقيقي الأكبر «بسام» في حي الهدف.
العودة إلى المخيم
وعندما أصبحت حالة من اليأس تسيطر علينا ونحن في رمانة، قررنا العودة إلى المخيم فرادى وجماعات، على أن نبقى أسرى، وذلك مهما كان الثمن.
في اليوم السابع من النفي إلى رمانة، قررت مغادرة القرية، بعد أن استكشف لي شقيقي بسام الطريق، فأبلغني أن هناك إمكانية لأن أصل إلى بيته في «الهدف».
على بوابة منزل بسام، كانت والدتي بانتظارنا أنا وشقيقيّ عبد الحكيم وغسان، وعندما لمحتنا عن بعد، بدأت تبكي وتقبلنا، وهي تقول لنا، «ولا يهمكم يما، يلعن أبو الدور، الدور بتتعوض»، في كلمات أشعرتني أن المنزل الذي بنيته بعد شقاء سنوات، قد هدم.
مكثت يومان في بيت بسام، ومن ثم سألني عما إذا كان لدي استعداد لأن نحاول معا العودة إلى المخيم، رغم الانتشار المكثف للجيش الإسرائيلي في محيطه، بعد ارتكاب المجزرة.
كانت إجابتي بـ «نعم»، فتوجهت وبسام وعبد الحكيم إلى المخيم، وبرفقتنا مجموعة من النسوة، لنجد الكارثة التي ألمت بأهالي المخيم، حيث مئات البيوت المدمرة والمحترقة، وأعمال البحث قد بدأت عن الضحايا تحت الأنقاض، وعائلات تحاول إخراج ما هو صالح من أثاث ومستلزمات من تحت الركام.