خبر : أجداد وأحفاد: هدلاء ...حسين حجازي

السبت 04 أبريل 2015 10:00 ص / بتوقيت القدس +2GMT






حينما نولد ونأتي الى الحياة فإن بذرة كامنة تظل تنمو وتكبر في أحشائنا كنزعة دفينة وغامضة في أعماق النفس تريد أن تعيدنا ثانيةً في نهاية دورة الحياة الى المكان الذي جئنا منه، الى أُمنا الأرض الإلهة الأُم، او الأُم الكبرى التي ولدنا من رحمها، عشتار الأولى. ولهذا ربما اختصر الإغريق القدامى حل هذا اللغز بأن قالوا إن السعادة تكمن في الا يكون الإنسان قد جاء قط، لكن أمَا وأن ذلك قد حدث فعليه ان يعجل السير بالخطى للعودة الى المكان الذي جاء منه. لكن الإغريق القدامى الذين اتخذوا لهم إلهة أقرب الى الرموز منها الى الآباء المقدسين، الذين يتدخلون في كل شاردة وواردة في حياة الناس، ما كان لهم ولا لآلهتم زيوس وجماعته ان يتوصلوا الى فكرة البعث، القيامة من الموت في الحياة الآخرة، كما في المثل الذي يضربه السيد المسيح عن البذرة التي يجب ان تعود الى الأرض لكيما تنمو وتنشأ الحياة.
هذا أنا أتعلم على يديك يا جدي وقد ارتقيت الى هذا العلو، بأن أُصبح جداً بفضل وجودك في غضون هذه السنوات الثلاث من عمرك، كنه هذه التحولات الثلاثة الأكثر إثارة واستدعاء لأسئلة الوجود الفلسفية، في دراما قصة البشرية، بأكثر مما تعلمته من الكتب. وقد كان التأمل يا هدلاء الجميلة هو هو ديدَن الإغريق القدامى وطريقهم الأول الى المعرفة، وقد عرفت حين أصبحت أبا التحول الثاني وأنجبت أباك حتى نصبح أنا وهو أبويك، إنما في هذا التكوين الجديد الأكثر تطوراً، ما يشي بالانتصار في عمر الثلاثين ذروة العنفوان والرجولة على فكرة الموت، إذا كان الاكتمال في حلقة تزاوج الذكورة بالأنوثة يشكل هنا مخرجاً للخلاص. وان الحياة التي سوف ترتسم مذاك كفضاء لا نهائي في امتداد الزمن على الأرض، فانه لن يتأخر الوقت، الزمن الممتد ليكشف عن بطلان زيف هذا الوهم او الاعتقاد وخديعته. حينما نصطدم بحقائق عقد الأربعين او ما يسمى يا حبيبتي بأزمة منتصف العمر، ويبدو ما أطول الرحلة وما اقصر العمر، وما أطول الجهد وما اقصر الصيت، كما قال ذلك الحكيم القديم، وحينها فقط قد اكتشفنا ضالة الإنجاز وعجزنا، حيث يبدو انحسار البطولة في هذا الحين كما لو ان ثورة عارمة تجتاحنا نريد أن نحطم كل شيء. ويتبدى لنا الخلاص في محاولة أخرى لمواصلة التعلق بالحياة بالبحث عن قرينات اصغر عمراً منا، لكي يمنحننا هذا الشعور، إعادة حقننا بإكسير الشباب والحياة.
ولكن اذا قُدر لكم ان تخرجوا بسلام من كوارث هذه الأربعين، اصبع ابوللو الجميل، وامتد العمر بكم لتروا أولادكم وقد اصبحوا بدورهم آباء، وأصبحتم بدوركم أجداداً، فيا لها من مكافأة عظيمة في نهاية العمر، انه حدث استثنائي وخارق هو ما يمثله التحول الأكبر، ولكن الأكثر أهمية في دلالته الرمزية والفلسفية في دراما قصة العمر، كما في قصة البشرية. ها نحن يا جدي نتساوى عند ذات البداية التي تمثل مهاد وطفولة الجنس البشري، ها نحن يا هدول نتعادل في لعبنا الأول على الرمل، وفي نهاية الحلم السعيد العلم المرح لتحقق شيوعية ماركس كنهاية للتاريخ، كانت الغاية هي الوصول او التحول بالإنسان الى صورة الإنسان اللاعب. أنشودة الفرح الأخيرة التي أنهى بها بيتهوفن سمفونيته التاسعة.
ها ان إشراقة في النفس البشرية تضيء في الروح لا يعادلها او يماثلها أي شيء سوى الإشراقة الأولى في صحوة الكون منذ الزمان السرمدي الأبدي. وحينما تطل يا هدلاء في القصة التي نقرأها (مي وأنا) لك، عن بزوغ الشمس على أبناء القرية، في صحوة هذه الشمس الريفية من نومها، إيذاناً ببدء الحياة في ربيعك الذي تشرق شمسه في مثل هذا اليوم، الأحد الخامس من نيسان، كقيامة المسيح، في قيامته التي تعود ذكراها في مثل هذا اليوم من نيسان من كل عام.
ها ان الشيوخ الأجداد يعودون الى طفولتهم ثانية، ولكن بخلاف الشيخ الذي يعود الى صباه في المرة الأولى في الأربعينات. فانه في هذه المرة يكون اكثر اقتراناً بصورة إلهة الإغريق القديمة كما تصورها لنا الأساطير اليونانية، كإلهة تجسد طفولة البشر، في تجردها وزهدها عن التدخل في شؤونهم، وحين يتحول الأجداد تحت الأرض الى التماهي مع الأنا العليا، وتجسيد هذه الأنا على حد سواء. يستعيضون عن غيابهم المجهول، قوة لا تقاوم من سحر جلالهم، في تقديس الناس للتقاليد التي ارسوها باعتبارها الموروث والأصالة، الذي تمثله ذكراهم الغابرة.
ألهذا السبب يا جدي وقد رويت لك كل الحكاية، كان أجدادنا يقولون وما كنا ندرك صغاراً معنى قولهم، انه ما أعز من الولد الا ولد الولد؟. فإذا كان الأبناء يخرجون ويتمردون او يثورون على تقاليد آبائهم، فان أبناءهم وقد تحولوا الى شعب وأمة هم الذين يردون لهم الاعتبار في التمسك بتقاليدهم. وما كنت ولدا يا هدلاء إنما بنتا، ابنتي، أنا يا جدي من انتظرك طوال هذا العمر على شوق وعطش كما يقولون، ولم يرزقني الله من قبل بنتاً أقف لأشم رائحتها وأقبلها من جبينها كما كان يفعل الرسول محمد مع ابنته فاطمة، وجعل خلفتي ثلاثة أبناء من الذكور، وكنت اردد مرات ساخراً من نفسي بعد انفصالنا: أنا وجدتك التي تحملين اسمها، لدي ثلاثة أبناء ذكور وأنا الأنثى الوحيدة بينهم.
وألحن اسمك على وقع كل حروفه، هدول وهدلاء وهديل وهدلة. وقالت العرب قديماً تخاطب هدلة يا أخت خولة ولكني أضيف الى قولهم يا بنت نسيبة، وهذه هي أسماء بنات العرب وأسماء نسائهن المذكورات. ولكن اي وقع على الأذن والقلب يا جدي حين تهجئين اسمك رباعيا: هدول وائل حسين حجازي. فذاك هو أول علم الكلام، العلم الأول الذي علمه الله لجدنا آدم، وعلم آدم الأسماء كلها.
كحمامة تهدلين يا جدي وانت تأخذين بيدي الى الحما، وأنحني لأقبل يدك ولكني سوف اقف مدهوشاً مرة حينما تسأليني بغتة أين أبوك؟ وهذا سؤال يا جدي اعرف دلالته، فهل انتقل مني عدوى ذلك الوسواس القهري إليك؟ حين تكون الأسئلة الأولى من هذا القبيل؟ في مرحلة الطفولة المبكرة، عن سر الوجود وعن ما بعد الله وهي الأسئلة المنبعثة من الخافية، اللاوعي، تشير الى هذا العرض الوسواسي. والتي يعتبرها شوبن هاور انها الأسئلة العبقرية حصراً وبامتياز التي يطرحها الأطفال، حين يماهي بين أسئلة الطفولة والعبقرية.
ولكنها يا جدي بالضبط هذه الموضوعة خاتمة القصة، فعندما أصبحت أباً للمرة الأولى تعلمت أن الفطرة والطباع الإنسانية التي يخلق عليها الناس هي وليست العوامل المكتسبة ما يشكل جوهر شخصياتهم بالأساس، وكنه الحقيقة الإنسانية. اليوم أتم هذه المعرفة فاعرف او لعلني أكتشف واضع يدي على هذا السر العظيم، الذي يتمثل بقصة التحول الذي يحدث في طفولة الجنس البشري في الانتقال التدرجي الذي يرافق التحول في اللغة من الإشارة والأصوات الى الحروف والكلمات، تطور الإدراك من الخافية اللاواعية الى الواعية. وهي الكيفية التي تحدث بها ولادة الوعي من اللاوعي. هل تعرفين الآن يا جدي كم عددتُ هذه السنوات، بالأيام والأسابيع والأشهر، انتظاراً يا هدول بلوغك السنوات الثلاث التي هي الحد الفاصل في العمر لبداية الانتقال والخروج من الخافية الى الوعي، من الصور والخيال إلى الفكر والإدراك مع هذا الانتقال اكتمال النطق اللغة والكلام؟
في عيد ميلادك الثالث يا جدي ربما كتبت عني أكثر ما كتبت عنك، ولكن عذري يا جدي أن جدك كان كاتباً ولم يكن شاعراً. إذ كان أوْلى بي في هذه المناسبة أن أقول فيك شعراً كما لو كنت ارغون الشاعر الفرنسي العظيم، الذي قال في إليزا أجمل قصائده، ولكني أقول في الختام لك يا هدول كما قال ارغون سوف تعرفين يا جدي ان هذا كان تخليداً لذكرى حبي لك وأنك يا هدول مَن تملكين شغاف قلبي، كل عام وانت بخير يا جدي وكل أطفال شعبنا.