كنا، في طفولتنا، نسميه رابش. هي سوق المخلّفات والملفوظات أو المتروكات، التي كان يرميها الإنجليز الى أوعية زبالة معسكراتهم، فيلتقط عمالنا المستخدمون هناك، ما يمكن الانتفاع به، وفي المعمعة، يظفر المحظوظ بشيء منها في حال جيدة. بعد الانجليز، كان الرابش من فضائل معسكرات قوات الطواريء الدولية. إن معنى التسمية بحد ذاته ــ بالإنجليزية ــ يجعل ملامسة البشر لتلك السوق نوعاً من البؤس. لم نكن ندري وقتها، أن تعيين الرابش سوف يتضخم ويتسع، من حجم معسكر للجيش، الى حجم دولة. فإسرائيل العنصرية، هي التي تلفظ بعض أشيائها القديمة. ولأنها دولة، وفيها نحو ثمانية ملايين ساكن، فإن رابشها يحتوي على كل شيء: الألبسة والأثاث والمحركات وأدوات الميكانيك وأواني المطابخ وكهربائياتها ومعدات التدفئة والتهوية واللوازم المنزلية وحتى اللوحات التي سئمها الساكنون أو الأطر التي يستبدلونها للعناية برسومات وصور لم يسأموها.
في سوق رام الله، تلتقي في موضع الرابش، أشباه نهايات لوازم ومتعلقات، وأشباه نهايات بشر وأعمار وأوضاع. هناك تفسيران، أولهما حميد، والثاني خبيث، لمناسبات اللقاء الأسبوعي بين السلع القديمة المعروضة بأبخس الأثمان، وزبائنها ممن كان لهم تفاؤلهم وشبابهم ورخاؤهم. يقول الأول، إنها مخلفات المحتل وأشياؤه، يأخذها الفلسطيني لكي يؤكد على أننا سنعيش بعدهم وأن خاتمتهم بين أيدينا. والثاني، الخبيث، يقول إننا نعيش بجوار الوعاء أو "الجردل" بمصطلحات السجن الإسرائيلي في السبعينيات.
لكن حاضر السوق ذي السلع الجديدة، مخادع في حقائقه الصينية، لأن السلعة القديمة من مخلفات معسكر الدولة المحتلة، أكثر جودة بكثير، من السلعة الجديدة، إن كانت مثلاً، مروحة للتهوية أو جهاز تدفئة، أو أدوات ميكانيك أو قطعة "سشوار" مثل تلك التي ابتاعها اليوم أبو عنتر بعشرة شواقل. الذاهبون الى السوق، محشورون بين قديم قوي وجديد مترهل!
بعض الراغبين في إطلالة على السوق، للتأمل، أو لالتقاط شيء يستحق الحمل؛ يتخذون من مطعم الفول والفلافل والحمص والمسبحة، القائم في أحد أضلاع السوق، عند موضع الرابش، مركزاً للمتابعة. وعلى بعد أمتار، يقوم مسجد جمال عبد الناصر، حيثما في لحظة الذروة، يتوقف الضجيج وتبدأ التلاوة!
هناك، كان اللقاء بيننا: الأخوة المناضلون والأصدقاء الأعزاء من ضباط وكتّاب وباحثين وصحفيين، أذكر منهم الأستاذ منير أبو رزق، والأستاذ سميح شبيب، والأسير الفلسطيني الأول محمود بكر حجازي، والاستاذ خميس أبو ندا، والأستاذ العميد سعيد الطهراوي، والأستاذ عيسى عبد الحفيظ، والضابط أبو عنتر أبرز القشاشين الدائمين من السوق، واختنا العزيزة الزائرة اللواء نفوذ الفرا، والعزيز ناصر النعراني، الضابط الجميل المقرب لي، الذي فوجئت به في صبيحة اليوم التالي لتوقيع اتفاق أوسلو، يقف على باب سفارتنا في الجزائر، حاملاً علم الحداد الأسود، فأحضرت له كرسي لكي يستريح وطلبت له قهوة وشاياً متتابعاً، لأن الحكاية كانت في تقديري طويلة ومريرة، وهكذا كانت!


