أثناء إلقائي محاضرة فكرية تناولت مواضيع السلفية والتراث والتجديد , أوضحت أن السلفية تعني العودة إلى النبع الصافي للإسلام الذي استقى منه أسلافنا منهجهم الديني والدنيوي ممثلاً في القرآن الكريم والسنة النبوية المعروف بالنص , الذي يمثل المرجعية لكل المبادئ الإسلامية والقيم الأخلاقية والأحكام الشرعية , التي تشمل العقيدة والعبادات والمعاملات , بدون أن نلزم أنفسنا بفهم السلف للنصوص الشرعية غير القطعية الثبوت أو الدلالة ( الظنية ) , أما النصوص الشرعية قطعية الثبوت والدلالة التي لا تحتمل التأويل ولا تخضع للاجتهاد فهذه يتساوى فيها السلف والخلف . فاعترض أحد المستمعين للمحاضرة على هذا التوضيح لمفهوم السلفية وقدم رؤية مغايرة للمفهوم قال فيها " إن السلفية تعني العودة إلى الإسلام كما فهمه سلفنا الصالح , وأننا ملزمون بفهمهم للنصوص الشرعية والاقتداء بهم بعد الاقتداء بالرسول – صلى الله عليه وسلم – في بناء النموذج الاسلام المعاصر "
وعندما تحدثت عن التراث وكيفية تجاوزه لتجديد الفكر الاسلامي , أوضحت أن التراث ليس هو الإسلام , وانما هو تفسيرات واجتهادات مختلفة للإسلام , ناتجة عن تفاعل العقل المسلم مع النص في ضوء متغيرات الزمان والمكان والمجتمع وظروف العصر ... وأن هذه التفسيرات والاجتهادات قد اختلطت بالنص وأصبحت – عند كثير من المسلمين – مساوية للنص وقد تتقدم عليه أحياناً , ولذلك يجب غربلة التراث وتنقيته لاستخلاص الصواب والمفيد فيه , واستبعاد الخاطئ والضار منه . فاعترض نفس المستمع على هذا التوضيح لمفهوم التراث وقال " أن تراث السلف الصالح الديني واجتهاداتهم في مجالات العقيدة والفقه والفكر يجب أن تُقّدم على القرون التي تلتهم لأنهم أقرب عهد برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأقدر على فهم الإسلام من غيرهم , وأن المنهج الذي يجب أن نتتبعه هو تقديم كلام الصحابي على التابعي , وكلام التابعي على تابعي التابعي .... وهكذا " .
وفي الحقيقة أن هذين الرأيين في موضوعي السلفية والتراث يمثلان مدرستين فكريتين مختلفتين في الفكر الاسلامي ذكرهما الدكتور محمد عمارة في كتابه ( تيارات الفكر الاسلامي ) وسمّى الأولى السلفية المنهجية والأخرى السلفية المذهبية , وفرّق بينهما في بعض القضايا منها أن السلفية المذهبية تجعل النصوص الدينية كما فهمها السلف الصالح هي المرجع في كل أمور الدين والدنيا , بينما السلفية المنهجية تعمل العقل في النصوص الدينية حسب مقتضيات العصر . والسلفية المذهبية تتبع التقليد الذي يؤدي إلى الجمود , بينما السلفية المنهجية تعمل على تحرير الفكر من قيد التقليد . والسلفية المذهبية تسعى إلى العودة إلى مجتمع السلف والاقتداء بنموذجهم , بينما السلفية المنهجية تعمل إلى استلهام ما هو جوهري ونقي – الدين الخالص – في تراثنا ليكون نقطة البدء لبناء مجتمع جديد ليكون هو الأساس الذي يُبنى عليه البناء الجديد , وليس هو البناء نفسه .
وبناء على ما سبق , وعلى سبيل المثال فإن محاولات بعض الاسلاميين استدعاء شكل النظام السياسي الاسلامي في أي عصر من العصور , لا يدركون أن هذا الشكل هو اجتهاد الصحابة – رضوان الله عليهم – بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – أو هوما فُرض على المسلمين في العهود التالية للخلافة الراشدة , وأن الثابت في النظام السياسي الاسلامي هو المبادئ العامة كالشورى والعدالة والمساواة وطاعة الحاكم في غير معصية , وحق الأمة في عزل الحاكم إذا أخل بشروط البيعة , وغيرها من المبادئ الملزمة التي تشكل جوهر النظام السياسي الاسلامي وليس شكله .
وكذلك من الامثلة الدالة على ذلك استدعاء تراث الفتنة بين جناحي الأمة : السنة والشيعة من أرشيف الكتب الصفراء التي تحرّض على التكفير والقتل , وتؤدي إلى اثارة الفرقة والنزاع داخل الأمة الواحدة , لتكون وقوداً للصراعات المذهبية والطائفية داخل الأمة الاسلامية . فالأصل أن نستبعد من التراث ما يضرنا في واقعنا المعاصر ويؤدي إلى تأخر المسلمين وفرقتهم , ونستدعي ما يفيدنا في واقعنا المعاصر ويؤدي إلى تقدم المسلمين ووحدتهم . وبالتأكيد فإن تراث الفتنة يضرنا ويؤخرنا ويفرقنا , وتراث الوحدة يفيدنا ويساهم في تقدمنا ووحدتنا وهو الأصل الثابت المستقي من النص الشرعي القطعي المؤكد قوله تعالى " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّـةً وَاحِدَةً وَأَنَـا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ " .


