خبر : في ذكرى استشهاد د.إبراهيم المقادمة رجل المواقف وصاحب الابتسامة الصادقة ..د.أحمد يوسف

الإثنين 09 مارس 2015 12:53 م / بتوقيت القدس +2GMT
في ذكرى استشهاد د.إبراهيم المقادمة  رجل المواقف وصاحب الابتسامة الصادقة ..د.أحمد يوسف



في الثامن من مارس 2003م، كان رحيل الأخ القائد د. إبراهيم المقادمة عن عمر يناهز 51 عاماً، حيث استهدفت مركبته طائرة أباتشي بصاروخ قبل اثني عشر عاماً، فارتقت روحه مع ثلاثة من مرافقيه شهداء إلى عليين.

كنت أعيش في واشنطن عندما جرت عملية اغتياله، وقد سمعت بالخبر في وسائل الإعلام، وشعرت بحجم الخسارة التي لحقت بحركة حماس باستشهاده، ولكن عزاؤنا - كان دوماً - أن تحرير هذه الأرض المباركة يحتاج منا إلى بذل المهج والأرواح، فالمسجد الأقصى هو محط شدِّرحال المسلمين، والقدس في العيون، والعهد لها "نفنى ولا تهون"، وفلسطين هي قضية الأمة ومركز عالميتها.

كان د. إبراهيم المقادمة "أبو أحمد" ثورياً في أفكاره، إسلامي الهوى، وطني المشاعر والأحاسيس، جريء في تطلعاته لطبيعة المواجهة مع المحتل الغاصب. لذلك، كان من أول المبادرين بالإعداد للعمل المسلح، وتنشيط خلاياه الأمنية والعسكرية في أوائل الثمانينيات.

القاهرة: بداية التعارف بيننا

كان الشهيد د. إبراهيم المقادمة واحداً من أكثر الإخوة المقربين إلى قلبي، حيث كانت بداية التعارف الحقيقي بيننا في القاهرة، ثم كانت سنوات الدراسة هناك تجمعنا بشكل مستمر، وذلك في لقاءات وسهرات تهيمن على أجوائها المطارحات الأدبية والأحاديث الدعوية والعمل التنظيمي.

خلال مدة تزيد عن خمس وأربعين عاماً من حياتي عشتها منتسباً لجماعةالإخوان المسلمين،عرفت الكثير من الشخصيات الإسلامية التي لا تُنسىمعالم مواقفها من ذاكرتي، ولا تنمحي ملامح آثارها، رجالاً كانوا أعلاماً وشمساً لا تغيب، وقد تركوا في مشهدنا الإسلامي والوطني بصمات وأثر، وإذا ذُكرت أسماؤهم أشرقت في الذاكرةطلعتهم البهية وتجلت هيئاتهم الفتية، ومن بين هؤلاء الأخ الشهيد د. إبراهيم المقادمة.

في عام 1973م، تسني لي التعرف عن قرب بالأخ الشهيد إبراهيم المقادمة، وذلك بعد أن كلفته قيادة التنظيم الفلسطيني في القاهرة بمهمة ترتيب إقامة طلاب الإخوان القادمين من قطاع غزة للدراسة في الجامعات المصرية، حيث كان قد سبقنا إلى هناك بعامٍ تقريباً.

جاءنا د.إبراهيم (رحمه الله) إلى مكان "الحجر الصحي" بجامعة عين شمس، وأخبرنا – بعد الترحيب والعناق - بأن أمور السكن مرتبة، وسيأتي لاصطحابنا بعد أن تسمح لنا السلطات المصرية بمغادرة المكان خلال اليومين القادمين.. جلسنا لمدة ثلاثة أيام في شقة أحد الأصدقاء بالمنيل مقابل مستشفى القصر العيني، وبعدها انتقلنا للشقة التي تمّ استئجارها لنا بمنطقة "أرض اللواء" بمحافظة الجيزة.. كان مكان السكن يقع في حي شعبي بسيط جداً، ولكنه – بشكل عام - مناسب لإمكانياتنا المادية المتواضعة، حيث إن ما نحوزه من مال لا يتجاوز المنحة الشهرية (10 جنيهات مصرية) إضافة لبعض ما أحضرناه معنا من تحويشة الأهل والأقارب، وهو في مجمله مبلغ زهيد جداً، ولكنه يحمينا من حاجة السؤال عندما تتخطى مصروفاتنا المنحة الشهرية.

أجمل ما في ذكريات ذلك الحي الشعبي أننا كنّا متجاورين، وكنّا نلتقي على مائدة الطعام البسيطة جداً، والتي كانت عناوينها في معظم الأوقات هي مهارات مبتدئين لأطباق مقلية من البيض والبطاطا أو البندورة، خاصة إذا أرهقت معدتنا وأزهقتها وجبات الفول والطعمية التي كنا نتعاطاها بشكل شبه يومي.

كان مجلس الشهيد المقادمة (رحمه الله) أشبه بصالون أدبي، يتمتع الجالس فيه بنقاشات فكرية وقراءات شعرية، وابتسامة عريضة تخرج معها - أحياناً - قهقهة الشهيد صادقة من القلب.. كنت في شبابي أهوى الشعر وأحفظه، وكان هو يجيد انتقائه وقراءته، لذلك وجدت في مجلسه متعة الصحبة، وكسب المعرفة، وصفاء الإخوان ومحبتهم.

كان المجلس يجمع - أحياناً - د. بشير نافع، الأستاذ أحمد عوده، د. علىشكشك، الشيخ عبد العزيز عوده، والأستاذ محمود حسان معمر.. وآخرون

في السنة الدراسية الأولى (التأهيلي) لي بجامعة الأزهر- كلية الهندسة، كانت المواد الدراسية هي مواد دينية بحتة، وكان ما لدي من ثقافة إسلامية تلقيتها في محاضن حركة الإخوان المسلمين أكثر بكثير من تلك المقررات الدراسية، وهذا أعطاني متسعاً من الوقت للذهاب مع د. إبراهيم - أحياناً - لجامعة القاهرة بالقصر العيني، والجلوس إلى جانبه في قاعة المحاضرات.. كانت الدراسة في جامعة القاهرة مختلطة، وكانت القاعة تمتلئ بالشباب والشابات، والكل  يحاول أن يكون في مظهره وهندامه على أفضل ما تكون الأناقة والألوان وعطر المكان.

مواقف وطرائف

ذات يوم، جلست إلى جانبي فتاة كانت في أبهى زينتها، وتخففت - بشكل سافر - من عباءة عفتها، وتركت لخيالات الشيطان واغراءاته مرتعاً خصباً.. ظلت عيوني تنظر بتوتر إلى الأستاذ المحاضر وهو يشرح مادته العلمية، أما عقلي فقد ظل شارداً حيث أعجزته – عن التركيز - رائحة العطر الأنثوي، والمشهد الذي حاولت ما استطعت أن أغض بصري وأحفظ حواسي بعيداً عنه.. وبعد المحاضرة، قلت للأخ إبراهيم: يا أبا أحمد.. بربك كيف تستطيع الحفاظ على تركيزك، وفهم ما يقدمه الأستاذ في المحاضرة وسط هذه الأجواء المشبعة بالعطر والأنوثة.؟

التفت إليَّ مبتسماً، وقال: يا أخ أحمد أنتم محظوظون في جامعة الأزهر، حيث لا وجود للاختلاط عندكم، أما نحن فلا خيار لنا إلا التكيّف مع هذا الواقع، والدعاء أن يحفظنا الله من إغراءاته وفتنه.. بعد عام من إقامتي في "أرض اللواء" بمحافظة الجيزة، انتقلت إلى حي رابعة العدوية بمدينة نصر الأقرب إلى كلية الهندسة، وظلت علاقتي بالأخ إبراهيم (رحمه الله) هي ما يجمعنا من لقاءات تنظيمية في نهاية كلِّ شهر، والصالون الأدبي الذي كنا نلتقي فيه - من وقت لآخر - بمنطقة منيل الروضة.

العودة إلى غزة والسفر من جديد

بعد التخرج، تزاورنا بالقدر الذي كانت تسمح به أوقاتنا، حيث شغلت كلُّ واحد منّا وظيفته، وكانت التزاماتنا التنظيمية محدودة بالمنطقة التي يعيش كلٌّ منّا فيها. سافرت بعد عام من تخرجي للإمارات العربية المتحدة، حيث طاب لي المقام فيها لبعض الوقت.. وهناك عملت لسنتين في جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي بمدينة دبي كمديرٍ للجمعية، حيث حصلت بعدها على منحة للدراسات العليا(الماجستير والدكتوراه) في أمريكا، وذلكمن وزارة التربية والتعليم هناك.

باعدت بيننا الأماكن والمسافات والسنين، إلا أنني كنت قد التقيته في بيته بمعسكر البريج في أوائل عام 82 قبل مغادرتي أرض الوطن وفي طريقي للتوجه للولايات المتحدة الأمريكية، وكان أروع ما فيه تلك الابتسامة الصادقة التي يلقاك بها في الحلِّ والترحال، والتي تسكن خيالك وتبقى خالدة فيه.

عدت إلى قطاع غزة أكثر من مرة، وأتذكر أنني حرصت على رؤيته في كل زيارة لي لغزة.. لقد جمعنا مرةً لقاءٌ في مستشفى النصر، حيث كان يعمل هناك كطبيب أشعة، ومرة أخرى في عيادته الخاصة في معسكر جباليا، حيث كان يمارس مهنته الأساسية كطبيب أسنان، وكنا في جلساتنانتداول شريطاً من ذكريات الماضي وأحاديث الغد المأمول.

برغم أن ساحات العمل كانت متباعدة بيننا، حيث كانت انشغالاتي وعملي في الولايات المتحدة، وظل هو مرابطاً على أرض الوطن؛ يجمع بين مهنته كطبيب أسنان وعمله الحركي، الذي ساقه منذ بداية الثمانينيات للدخول على خط العمل العسكري، ثم الاعتقال والخروج من السجن، ثم العودة لقيادة العمل العسكري، إلى أن ارتقى إلى ربه شهيداً، تودعه زغاريد الوطن، وكلمات الرجال، ودموع إخوانهمن كوادر الحركة وقياداتها الذين عرفوه وأحبوه.

خلال إقامتي بالولايات المتحدة الأمريكية، كنت أتابع أخباره في الصحافة، حتى في الأوقات التي اعتقلته السلطة الفلسطينية لم تنقطع أخباره عنّا، وذلك من خلال ما كنّا نقرأه في الصحافة العربية والعبرية.

بعد الاعتقالات التي قامت بها السلطة الفلسطينية لعناصر من حركة حماس عام 1969م، قرأت عنه تقريراً في إحدى المجلات الإسرائيلية التي تصدر باللغة الإنجليزية، وشاهدت صورته وهو في أحد مراكز (التأهيل والإصلاح..!!) التابعة لجهاز الأمن الوقائي، والتي كان يُشرف عليها – آنذاك - العميد حمدي الريفي، وقد لاحظت تناقص وزنه،حيث غابت وفرة اللحم التي كانت تكتنز جسده، وغدا كمن خسر للتو أكثر من عشرين كيلوجراماً من أطايب شحمه ومفتول عضلاته.

لقد شعرت بالاستياء والحزن الشديد لما أصاب د. إبراهيم وإخوانه من المعتقلين معه،  فالمكان ليس لأمثاله وإخوانه من الرجال، هؤلاء الذين نذروا حياتهم للدين والوطن.. وحينذاك؛أدركت بأن المواجهة مع السلطة هي مسألة وقت.

عاش حياته مشروع شهادة

ذكر لي أحد الرجال الأفاضل، ممن كانوا يترددون عليه في فترة اعتقاله، وأسهم في تعجيل خروجه من السجن، أنه قام بزيارته في بيته للتهنئة بعد الإفراج عنه..وبعد انتهاء الزيارة، خرج معه د. إبراهيم لتوديعه.. وبعد أن خطى معه عدة أمتار خارج المنزل، عانقه وقال له مودعاً: أخشى على سلامتك إن مضيت أبعد من ذلك، فحياتي تلاحقها طائرات العدو، فوداعاً يا صديقي وإلى لقاء.

إند.إبراهيم المقادمة كان أمةً في رجلٍ؛ بجهاده وتضحياته وعلمه وصبره، فقد عمل بفكره وجهاده لتأسيسجيل يعرف الطريق إلى التحرير والعودة، لذلك كان كتابه "معالم الطريق إلى تحرير فلسطين".

كم كان ذلك الوقت الذي تمَّ فيه اعتقال د. إبراهيم وإخوانه مخزياًللسلطة، ومؤلماً للشارع الفلسطيني.. فهل يعقل أن يُضرَب بالسياط حتى لايستطيع الوقوف على قدميه، في حين كان هو من يربك العدو الصهيوني ويوقفه على قدميه!! كم هيمفارقة عجيبة!!

لقد رثاه الكثيرون ممن عرفوه وأحبوه، وكتب عنه من عايشوه وتتلمذوا على يديه، وهناك ما يزال الكثير في جعبة ممن كانوا معه على خطى الجهاد والمقاومة، وبايعوه على الموت والاستشهاد، حيث إن أقلامهم ما تزال وافرة المدد لكتابة المزيد عنمحطات حياته المتعددة.. ولعلي هنا أكتفي بما قاله الأخ إسماعيل هنية، القيادي في حركة حماس، يوم استشهاده: "إن د. إبراهيم المقادمة كان عظيمًا في حياته كما في استشهاده، كيف لاوقد خرجت جماهير فلسطين لتشيِّع البطل المسجَّى في مسيرة رُبُع المليون، ومسيرةالمائة ألف في البريج والمنطقة الوسطى، والمسيرات الحاشدة في اليمن وسوريا اليرموكولبنان والسودان لتحيِّيَ ذكرى القائد المقادمة، ولترفع علم الجهاد والمقاومة".

رحم الله د. إبراهيم المقادمة "أبا أحمد" رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.. لقد عاش محباً لإخوانه، وكان بشوشاً لا تفارق ابتسامته الصادقة وجه من يلقاه.. مات شهيداً في حضن وطنه، حيث كان رجلاً من أهل المروءات والندى، وكان قوي الشكيمة على الأعداء وأهل الخنا؛ صدق الله فصدقه، وأبقى له ذكره الطيب بين إخوانه، وابتسامته التي تطالعنا كلما ذكرناه، لتجمع له الحسنات حتى بعد مماته، بواقع أن "تبسمك في وجه أخيك صدقة".

رحمك الله يا أبا أحمد.. سبقتنا بالشهادة، حيث اصطفاك الله من بيننا، ومنحك الدرجات العلى، وكنت من بين أولئك الذين قال الله فيهم ( ويتخذ منكم شهداء).