تذكر المعضلة التي تواجهها الولايات المتحدة في المفاوضات مع ايران، في مسألة تطوير السلاح النووي، بالمعضلة السياسية التي واجهتها واشنطن في اتصالاتها مع الاتحاد السوفييتي في فترة الاتفاقات الاولى بين القوتين العظميين، فيما يتعلق بالسلاح النووي ايضا. في أثناء جولة المحادثات التي أدت في العام 1971 الى اتفاق سالت 1، اراد مستشار الامن القومي في حينه، هنري كيسنجر، أن يضمن الا يستغل الاتحاد السوفييتي الانفراج مع الغرب لمواصلة سياسته العدوانية وراء حدوده.
وقد سعى الى الوصول بالتوازي الى تفاهمات مع الاتحاد السوفييتي في هذا الموضوع، وهذه معروفة باسم "المبادىء الاساس في العلاقات الامريكية -السوفييتية". وكان هدفها خلق انفراج حقيقي او تشكيل اساس لتجنيد الدول الغربية للعمل ضد العدوان السوفييتي المستقبلي. وأراد كيسنجر أن يمنع سيناريوهات تحققت في السنوات التالية لذلك. ولكن، في الوقت الذي وقع فيه الرؤساء الامريكيون على اتفاقات جديدة، فرضت قيودا على الترسانة النووية للولايات المتحدة، عمل السوفييت وقوى متفرعة منهم في أنغولا، في الموزمبيق، في القرن الافريقي وفي نهاية العقد اجتاح الجيش الروسي افغانستان.
وانهار الانفراج، ورفض مجلس الشيوخ الامريكي الاتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بشأن التسلح الاستراتيجي، المعروف باسم "سالت 2". ومع أن كيسنجر لم ينجح في وقف التوسع السوفييتي، الا انه ثبت فهما بموجبه لا يمكن التسليم بوجود محادثات على تقييد التسلح النووي، عندما يكون أحد الطرفين بالتوازي يعمل علنا لتغيير ميزان القوى.
عبر البحرين واليمن
هذه الايام تبدي الولايات المتحدة وشركاؤها من مجموعة الخمسة زائد واحد اهتماما بالتوصل الى اتفاق مع ايران على تقييد برنامجها النووي. ولكن، بالتوازي مع المحادثات، تدعم ايران بشكل نشط فروعها في المنطقة (السلاح، التدريب وارسال القوات العسكرية الى مناطق المواجهة). ومنذ بدأت الاتصالات لاستئناف محادثات النووي في 2013، لا يؤجد اي مؤشر يدل على أن الايرانيين يكبحون جماح ميولهم التآمرية في ارجاء الشرق الاوسط، بل العكس.
منذ الثمانينيات، تعمل في لبنان قوات الحرس الثوري تحقيقا للمصالح الايرانية في الشرق الاوسط. ويكرر مسؤولون ايرانيون، وعلى رأسهم آية الله علي خامينئي مشددين على سعي طهران لفتح جبهات جديدة ضد اسرائيل في الضفة الغربية، مثلما في قطاع غزة، كمدماك في خطة "تحرير فلسطين". وقد جسد قتل الجنرال الايراني وضباط من الحرس الثوري في الجولان السوري ذلك. بل ان ايران بعثت بقوات الى العراق للدفاع عن بغداد وعن المدن المقدسة للشيعة. وفي سوريا تساعد وحدات الحرس الثوري جيش الرئيس بشار الاسد وتشارك في الاعمال العسكرية ضد السكان السنة، وذلك بالتعاون مع حزب الله.
البحرين، حيث أغلبية شيعية من السكان، هي الهدف المفضل للتآمر الايراني. فقد قال مستشار كبير لخامينئي في 2009 ان البحرين هي المحافظة الـ 14 لايران. وفي 2013 انكشفت شبكات ارهابية نظمها الحرس الثوري. وفي هذه الاثناء، في الفترة الاخيرة امسك بارساليات سلاح ايرانية في طريقها الى لبنان، الى قطاع غزة، الى البحرين والى اليمن.
لقد كان التعبير الابرز للتوسع الايراني في المنطقة هذه السنة في اليمن. فالعاصمة، صنعاء، سقطت في أيدي الميليشيا الحوثية الشيعية – باسناد ايراني. ورفعت هذه الميليشيا لرئيس اليمن سلسلة من المطالب، ابرزها السيطرة على باب المندب، المضيق البحري الاستراتيجي، الذي تمر عبره ناقلات النفط، التي تنقل 3 – 4 مليون برميل نفط في اليوم من المحيط الهندي الى البحر الاحمر ومنه الى السوق الدولي. وتكشف مطالب الحوثيين السعي الايراني الى السيطرة على احد المسارات البحرية الاهم للاقتصاد العالمي.
يشهد التدخل العسكري الايراني على تصميم القيادة في طهران، على تثبيت مكانة ايران كقوة مهيمنة في الشرق الاوسط. فمنذ تمو 1991، في مقابلة مع صحيفة "رسالات"، سأل خامينئي سؤالا بلاغيا حول الهدف الاستراتيجي لايران: "هل نحن نسعى للحفاظ على وحدة أراضي دولتنا أم لتوسيعها؟" وكان الجواب بسيطا ومباشرا: "نحن بالتأكيد ملزمون بالسعي الى توسيعها".
نقاط ضعف
ترتبط التطورات آنفة الذكر بالمفاوضات على تطوير النووي الجاري بين ايران ومجموعة الخمسة زائد واحد. وفي الاسبوع الماضي نشر دنيس روس، الذي خدم في ادارة الرئيس براك اوباما مقالا مثيرا للفضول في "بوليتيكو" (مع خبيرين آخرين)، يشكك بصدق نوايا ايران.
وفصل روس في مقاله التنازلات الكثيرة التي قدمها الغرب لايران في اثناء المفاوضات: الموافقة على السماح لايران بتخصيب اليورانيوم، خلافا لستة قرارات من مجلس الامن في الامم المتحدة. ولم يطلب الغرب ان تقلص ايران جدا عدد اجهزة الطرد المركزي لديها؛ كما ان الغرب لم يطلب تفكيك منشآت النووي الاكثر اشكالية لديها مثل بوردو، رغم ان الموضوع طرح في مراحل المفاوضات الاولى. اما ايران من جهتها فلم تعطي شيئا جوهريا بالمقابل.
ان نقاط ضعف الاتفاق المتبلور تطرح عدة اسئلة وفي أساسها: هل سينجح الاتفاق المستقبلي في ان يقلص بشكل كبير قدرة ايران النووية؟ وباي قدر سيجعل الاتفاق صعبا على ايران طرد مراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية (مثل طردهم على يد كوريا الشمالية)، ويمنع عنها التقدم بسرعة نحو تركيب القنبلة الذرية؟
ويرفض كيسنجر في كتابه الجديد "نظام عالمي" نهج اولئك الامريكيين الذين يعتقدون بان المفاوضات على النووي بين واشنطن وطهران ستخلق تغييرا جذريا في العلاقات بين الدولتين. كما يرفض كيسنجر الفهم الذي يقول ان هذا التغيير سيعوض الغرب عن التخلي عن السياسة السابقة بشأن البرنامج النووي الايراني.
تثبت سياسة التوسع الايراني في الشرق الاوسط مرة اخرى بان الفرضية الاساس التي تقول ان طهران تجتاز تحولا جذريا سيضمن التزامها بالاتفاق المتبلور، هي خطأ جسيم. فايران التي تسعى الى تحقيق هيمنة اقليمية، لن تهجر تطلعاتها النووية. وبعد رفع العقوبات ستسرع ايران تطوير السلاح النووي وستعزز أكثر فأكثر هيمنتها في المنطقة.
سيتوصل الغرب إذن الى اتفاق سيء مع ايران، وفي هذه الظروف يفضل الا يتم التوصل معها الى اي اتفاق.


