خبر : ضحايا فرنسا بين الاستخدام والنفاق والاتعاظ ...علي جرادات

كما كان متوقعاً ضرب الإرهاب التكفيري خارج دائرة تركيزه الحالية، البلدان العربية، خصوصاً سورية والعراق، مستهدفاً فرنسا، وكان يمكن أن تكون دولة «غربية» أخرى، ما يعني أن ما أصاب فرنسا وخلَّف 17 ضحية من المواطنين الفرنسيين الأبرياء، يمكن أن يصيب غيرها من الدول «الغربية» ودول العالم، وبصورة يصعب التنبؤ بوحشيتها وعدد ضحاياها. 
أثار الهجوم الإرهابي على باريس موجة إدانة عالمية واسعة، اختلطت فيها الدوافع، تبعاً لاختلاف المصالح والأهداف التي توزعت بين أطراف، تعاني ويلات هذا النمط من الإرهاب، أثبت مصاب باريس صوابية دعواتها إلى بلورة إستراتيجية عالمية جادة وشاملة لمكافحة الإرهاب والقضاء عليه، وأطراف، في مقدمتها الولايات المتحدة، تستخدم دماء المواطنين الفرنسيين الأبرياء للتغطية على مواصلة إستراتيجية التمييز بين إرهاب وإرهاب، وأطراف، بينها دول إقليمية وعربية، خليجية تحديداً، تدعم وتمول تنظيمات الإرهاب التكفيري الإسلاموي، لكنها تسارع إلى إدانتها، بعقلية المذنب الخائف المرتجف والمنافق، عندما تضرب داخل بلدان حلفائها «الغربيين»، وصولاً إلى إسرائيل، (دولة آخر احتلال وأبشعه في العالم)، التي ركبت بقيادة نتنياهو موجة الإدانة العالمية الشاملة للهجوم الإرهابي على باريس، واستخدمتها، ووظفت اشتمال ضحايا الهجوم على أربعة مواطنين فرنسيين يهود، لابتزاز فرنسا وباقي دول أوروبا والعالم عبر إحياء أسطوانة «الضحية الدائمة»، ولتبرير ما ارتكبته منذ إنشائها، ولا تزال، مما لا نظير له في التاريخ المعاصر من أشكال الإرهاب والتطهير العرقي المخطط وجرائم الحرب الموصوفة والإبادة الجماعية الممنهجة عبر مساواة الهجوم الإرهابي البربري على باريس بالنضال الوطني التحرري الدفاعي المشروع للشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة، بل حولت هذا الهجوم الوحشي إلى بعبع لإخافة مواطني فرنسا وأوروبا من اليهود، بغرض جلب المزيد منهم إلى إسرائيل، بما يساعدها في التغلب على المصاعب الديموغرافية التي تعترض سبيل تنفيذ مخططها الصهيوني لبناء «دولة اليهود الخالصة»، وكأن ذلك ما زال في عداد الممكن الواقعي وليس مجرد وهم أيديولوجي، بما يقتضيه من إطالة للصراع وتحويله إلى صراع ديني هيهات أن ينتهي أو أن يُسوَّى على أساس قرارات الشرعية الدولية، أو كأنه، ليس على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والتاريخية المكفول أدناها في هذه القرارات، أو كأنه، وهنا الأهم، يختلف، من حيث المبدأ والنوع، عن مطالب تنظيمات الإرهاب التكفيري الإسلاموي ببناء دول أو «إمارات» «خالصة الطائفة والمذهب»، ما يعني أننا في الحالتيْن أمام محاولات يائسة لإعادة البشرية إلى مربع ما قبل نشوء دول المواطنة الديمقراطية العلمانية الحديثة ذات السياسات الاجتماعية والاقتصادية المتنوعة.
على أية حال، اختلاط دوافع إدانة الهجوم الإرهابي على باريس ارتباطاً باختلاف المصالح والأهداف، ليس جديداً، ولا مستغرباً، فقد سبق للعالم أن شهد مثله، خاصة بعد الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة في 11 أيلول 2001، وهو الهجوم الذي نفذه تنظيم «القاعدة» الإرهابي ذاته الذي نفذ الهجوم على باريس، بل هو التنظيم الإرهابي ذاته الذي ساهمت في ثمانينيات القرن الماضي في خلقه ومده بالمال والسلاح الولايات المتحدة وحلفاء دوليون وإقليميون وعرب لها، في مقدمتهم الباكستان والسعودية، لمواجهة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان آنذاك، لتعود وتستخدم انقلاب الوحش الذي صنعته عليها، ذريعة وغطاء لا لغزو أفغانستان وتدميرها، فحسب، بل لاحتلال العراق وتدميره دولة وجيشاً ومقدرات ونسيجاً وطنياً ومجتمعياً. 
فماذا حصد العالم المعولم، (بكل المعاني بما فيها «محاربة الإرهاب»)، وفق الرؤية الأميركية التي لا يحركها غير دوافع السيطرة المنفردة على العالم، سياسياً وثقافياً وعسكرياً وأمنياً، والحفاظ على الحصة الأكبر من عائدات الاقتصاد العالمي؟
لقد حصد العالم جراء ذلك، فيما حصد، انتشار وتقوية تنظيم القاعدة الإرهابي وتفريخ عدد كبير من التنظيمات التكفيرية الإرهابية التي، على اختلاف مسمياتها، تتبنى رؤية تنظيم القاعدة وأهدافه ووسائله ذاتها، بل وولادة تنظيم «داعش» في العراق وامتداده إلى دول عربية وغير عربية، حتى صار صاحب «دولة إسلامية» في شمال العراق وشرق سورية، تملك من الإمكانات أكثر مما يملكه كثير من دول المنطقة والعالم، وبات القضاء عليها، وفق «الخطة الأميركية»، بحاجة إلى تحالف دولي واسع يحتاج إلى سنوات لإنجاز هدفه، بل إلى عقود حسب تصريحات كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين الأميركيين.                         
لكن في الحالات كافة، ومنعاً لكل التباس، يجدر التأكيد على أن قتل البشر على «الهوية»، أياً كانت جنسية مُرتكبيه وضحاياه، هو عمل إرهابي موصوف ووحشي بربري بامتياز. 
وهذا هو، لا أقل، التوصيف اللائق لإزهاق حياة 17 مواطناً فرنسياً في الأسبوع الماضي، ومئات آلاف المواطنين العرب وغير العرب، إن لم يكن أكثر، خلال العقود الأربعة الماضية، على يد تنظيم «القاعدة» وغيره من التنظيمات الإسلاموية التكفيرية الإرهابية. وبالمثل يجدر التأكيد على أن الفكر الإسلاموي السلفي بأشكاله وجنسياته العربية والإقليمية، و»الوهابي» منه بالذات، هو التربة الثقافية لولادة هذه التنظيمات التكفيرية بالمعنييْن «الدعوي» و»السياسي» قبل وأثناء حقبة «الحرب الباردة»، وأن تمويلها من عائدات الثروة النفطية العربية الخليجية هو العامل الأساس الذي أدى إلى انتشارها، بتفاوت، داخل بنية الأنظمة الرسمية العربية التي وفر استبدادها وفسادها وتبعيتها الأسباب الأساسية لتغلغل هذه التنظيمات داخل البنية الشعبية العربية، حتى صارت، (التنظيمات)، بمثابة «الإجابة الخاطئة عن الأسئلة الصحيحة»، وبالذات خلال الأربعين عاماً ويزيد التي تلت ارتداد نظام السادات - مبارك على المنجزات الوطنية والقومية والاجتماعية لمشروع ثورة 23 يوليو المصرية بقيادة القائد والزعيم الراحل جمال عبد الناصر، بكل ما أنجبه هذا الارتداد من «تجريف» سياسي وفكري و»تخلف» مجتمعي و»انحطاط» ثقافي و»انقلاب» مفاهيمي، ومن معضلات البطالة والفقر المدقع والثراء الفاحش والقمع وانعدام الفرص والحريات العامة والخاصة، كتربة خصبة لتنامي التنظيمات التكفيرية تنامياً بكتيرياً لا في مصر، مرآة الأمة وقاطرة التغيير فيها، فحسب، بل في جميع الأقطار العربية، أيضاً.
لكن ما تقدم حول الأسباب الداخلية لنشوء وانتشار وتغلغل التنظيمات الإسلاموية التكفيرية لا يكفي، أو لا يكفي وحده على الأقل، لإعطاء تفسير شافٍ وشامل لانتقال هذه التنظيمات من الشكل «الدعوي» و»السياسي» على المستوى العربي والإقليمي إلى الشكل «الجهادي» الإرهابي على المستوى العالمي، وهو التفسير الذي نجده بالقول: لئن كانت فضيلة صراع «القطبين» الأميركي والسوفييتي في حقبة «الحرب الباردة» أنه ظل صراعاً، (رغم هول ما خسرت البشرية جراءه من ضحايا)، بين مضامين فكرية سياسية اجتماعية، فإن أشد شرور فوز الولايات المتحدة بهذه الحرب هو أن الإدارات الأميركية، والحكومات الأوروبية، وإن بمقدار أقل، عوض أن تستفيد من هزيمة منافسها الفكري السياسي الاجتماعي، النموذج الاشتراكي السوفييتي، لإظهار ما تعتقد أنه الأفضل للبشرية، نموذجها الرأسمالي، اندفعت، يحركها هدف السيطرة السياسية المنفردة على العالم ونهبه بالمعنى الشامل للكلمة، نحو افتعال وخلق عدو وهمي يحمل هوية حضارية مختلفة، تسميه «إسلامي» مقابل «مسيحي»، أو»شرقي» مقابل «غربي»، أو «متخلف» مقابل «راقي»، أو.....الخ من التسميات التي توحي وتؤجج «صدام الحضارات» بدل تكاملها وتفاعلها والإقرار بتنوعها الطبيعي، بل واندفعت نحو دعم وتمويل وتسليح ما توالد، (لأسباب سياسية اجتماعية داخلية وخارجية)، في أحشاء هذا العدو المفتعل من تنظيمات تكفيرية إرهابية عندما تخدم مصالحها، ونحو معاداتها والدعوة إلى تشكيل التحالفات لمحاربتها والقضاء عليها عندما تضرب، على طريقة انقلاب السحر على الساحر، الأبرياء من مواطنيها، وآخرهم الـ17 مواطناً فرنسياً، والخشية أن تُستخدم دماء هؤلاء، بالطريقة ذاتها التي استُخدمت فيها دماء مئات المواطنين الأميركيين ضحايا الهجوم الإرهابي في 11 أيلول 2001.