غزة محمد عثمان أربع سنوات ونصف كانت مدة كفيلة لتنتهي خلالها قضية المُتهم بالتخابر مع إسرائيل أ.د والموقوف منذ عام 2010 إما بالإدانة أو البراءة.. إلا أنه برصاصة واحدة ودون أمر قضائي تحول من موقوف إلى معدوم.
وما بين الإيقاف الذي امتد لسنوات، والرصاصات التي لم تأخذ في طريقها إلى جسده سوى ثوانٍ معدودة، تفاصيل كثيرة أخفاها الموت. فالشاب "أ.د" دخل إلى السجن متّهماً بالتخابرِ مع الاحتلال وهو في التاسعة عشر من عمره تاركاً خلفه زوجته وابنه الوحيد، وخلال خمسِ سنوات قضاها في أقبية "سجن الكتيبة" لم يُدن، وكان يأمل الإفراج عنه بحكمٍ قضائي يرى بعده ابنه الذي كبر بعيداً عنه، ويُرمّم حياته قدر استطاعته، غير أنه أثناء الحرب الأخيرة على غزة انتهى حلمه بعدة رصاصات سمع صوتها وأردته قتيلاً. يقول والده الستّيني إنه ورغم شهادة العديد في المحكمة لصالحه خلال سنوات توقيفه وعدم توجيه لائحة اتهام ضدّه، إلا أن المسلحين أعدموه ميدانياً في الحرب برِفقة خمسة عشر آخرين وفق ذات التهمة دون صدور أي أمر قضائي بإعدامهم.
فصول الحكاية في العشرين من شهر أغسطس من عام 2014، أي في الأيام الأخيرة للحرب التي استمرت واحداً وخمسين يوماً، حاولت إسرائيل اغتيال القائد العام لكتائب القسّام، الذراع المسلّح لحركة حماس، محمد الضيف، واستشهدت زوجته وابنه اللذان كانا في المنزل المُستهدف بمدينة غزة. وفي اليوم التالي اغتالت إسرائيل ثلاثة قادة قسّاميين في أحد المنازل بمدينة رفح جنوب القطاع، هم محمد أبو شمّالة ومحمد برهوم ورائد العطار.
بعد التواصل مع عدد من الجهات الرسمية في قطاع غزة، من بينها القضاء والادّعاء العسكريّين ووزارة الداخلية، استنكرت جميعها عمليات الإعدام وقالت إنها لا علاقة لها بها، ما يعني أن تشكيل المسلّحين ما أسموه محكمة ثورية ميدانية، عدا عن عدم اختصاصها، فإن الأمر افتقد لمجموعة من الشروط التي تعطيها الشرعية، والتي تبرز في المادة (129) من ذات القانون وتنص على أن "المحكمة تشكَّل بقرار من القائد الأعلى، من رئيس وعضوين أحدهما على الأقل حقوقي، ولا تقل رتبة الرئيس عن رائد، كما لا تقل رتبة كل من العضوين عن نقيب، ولا يجوز محاكمة أحد الضباط أمام محكمة يكون رئيسها أدنى منه رتبة".
المحاكم مختلّة الشروط التي شكّلها المسلحين بما يخاِلف القانون، حاكمت المتهمين الموقوفين والمحكومين ولم توفّر لهم أي ركن من أركان العدالة، وهو انتهاك واضح للمادة (132) من القانون نفسه، والتي تنص على أنه "تطبّق محكمة الميدان الأحكام المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية الثوري ما أمكن، وتراعي حق المتهم القانوني في الدفاع عن نفسه". فصائل المقاومة تصدّرت كتائب القسّام، الذراع المسلّح لحركة حماس، مشهد الإعدام في وسائل الإعلام، غير أن معدّ التحقيق لم يستطع الوصول إليها للحديث معها. إلا أنه تواصل مع لجان المقاومة إحدى أهم الفصائل التي أعطت مباركة منقطعة النظير لعمليات الإعدام.
الصليب الأحمر تُعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر إحدى أهم المنظّمات الدولية التي تطّلع بشكلٍ دائم على أوضاع السجناء والمعتقلين عموماً، وقضايا المتهمين بالتخابر بشكلٍ خاص. راسلناها للرد على بعض التساؤلات، فكانت إجاباتها دبلوماسية ومقتضبة. وأكّدت على أن العقوبات بحق المعتقلين يتم بحثها بطريقة ثنائية وسرّية ومباشرة مع السلطات. وقالت في إجاباتها :"إن القانون الدولي الإنساني الذي تعمل في الأراضي المحتلة على أساسه لا يمنع عقوبة الإعدام بحد ذاتها، ولكنه يتضمّن مبدأ عدم تنفيذ أي حكم بدون إجراءات قانونية يتم اتخاذها من قِبل المحكمة. وهذه الإجراءات التي تعتبر ضمانات قضائية يجب أن تكون متاحة ومتوفّرة لأي معتقل من أجل ضمان محاكمة عادلة، مع احترام تلك الضمانات في كل الظروف، بغضّ النظر عن طبيعة أو خطورة الجُرم الذي يُحاكم الشخص عليه". وثائق تنفي الإدانة في تحقيقنا الاستقصائي الذي استمر لأكثر من شهر ونصف، حصلنا على أحكامٍ قضائية صادرة عن القضاء العسكري بغزة بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية، مروّسةً من المحكمتين العسكرية العليا والدائمة، وهما جزء من محاكم الثورة التي كان يُحاكم أمامها المعدومين. في دليلٍ على وقوف المتهمين أمامها قبل الحرب، واثبات رسمي وقاطع على عدم قانونية الإعدام.
لا يشكّلون خطر منسّقة وحدة تقصّي الحقائق وإدارة الشكاوى في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بغزة المحامية صبحيّة جمعة، تؤكد أن حالات الإعدام كانت غير قانونية أو مبرّرة، قائلة :"في حينها قالت الهيئة أن الإعدام كان خارج إطار القانون، إذ أنه لطالما أن السجون كانت مفتوحة خلال الحرب ووجود محاكم وسيطرة على الوضع الميداني، فكان بالإمكان اعتقالهم لو كانوا مضبوطين في الميدان، أما من كانوا معتقلين بالسابق فكان يتوجّب أن يأخذوا حقوقهم مهما كانت تهمهم". واتفق معها الخبير الأمني والسياسي د.إسلام شهوان، مؤكّداً على أن غالبية الإعدامات حدثت خارج إطار القانون وأثناء اعتقال المتهمين أو توقيفهم لدى أجهزة الأمن وعلى ذمم القضاء.
من جهته، يرى المحلل السياسي د.عدنان أبو عامر، أن الإيمان والتفهّم لمحاربة ظاهرة التجسّس كان لابد وأن يأتي معه مسوّغ قانوني لطبيعة أي إجراء جنائي أو أمني قد يتم اتخاذه بحق هؤلاء المتّهمين بما لا يخل بالحالة القانونية العامة ولا يحمّل عائلاتهم أي آثام، حسب قوله.
ووفق المستشار القانوني الدكتور عبد الكريم شبير فإنه تم ارتكاب جملة من الأخطاء خلال عمليات الإعدام، مشيراً إلى أنها تكمن بالتسرّع في الإعدام ذاته قبل اتخاذ الإجراءات القانونية في محاكمة المتهمين، وإعدامهم في الميدان قبل المحاكمة أو إصدار حكم نهائي ومصادقة الرئيس عليه. واضاف:"إذا كان المعدومين محتجزين منذ سنوات في السجن، فان الحكومة في غزة والأجهزة الأمنية والقضائية والنيابة هم المسئولين عنهم مسئولية قانونية لأنهم بحوزتهم وتحت إمرتهم وهم الذين أوقفوهم بالقانون، وإذا لم يصدر بحقهم أحكاماً من محكمة القضاء العسكري، وإذا كانوا محكومين لكن لم تؤيّد أحكامهم من محكمة الاستئناف ولم يُصادَق عليها حسب الأصول الدستورية والقانونية ونُفّذ فيهم الإعدام، فهو تنفيذ خاطئ ومخالِف للقانون، ولا يجوز لأي جهة أيٍ كانت أن تنفّذ إلا من خلال القانون الحامي والضامن لكل الشعب". وبيّن قانون مراكز الإصلاح والتأهيل الفلسطيني رقم ( 6 ) لسنة 1998م في مادته السابعة أن المساجين داخل السجن يكونوا على عهدة مدير المركز الذي يتبع اختصاصات وزارة الداخلية. ويعني ذلك أن مسئولية أخرى تقع على عاتق وزارة الداخلية وسجونها. تؤكد سجلّات المحاكم والمحامين على أن جميع من تم إعدامهم كانوا يقضون فترات توقيف وسجن ما بين عامين إلى ستة أعوام، ومن بينهم من يقضي فترة محكوميته التي تصل إلى خمسة عشر عاما، فهل بالفعل كانوا يشكّلون خطرا على أمن المقاومة والشعب في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة؟
المستشار شبير يشير إلى أنه من أُلقي القبض عليهم قبل الحرب لم يُشكلّوا أي نوع من أنواع الخطر، خاصة في ظل وجود إجراءات قانونية وقضائية يتم اتخاذها بحقهم.
تحقيق واتهام بالفرار!! المتحدّث باسم وزارة الداخلية إياد البزم يشير إلى أن وزارته شكّلت بعد الحرب لجنة للتحقيق والوقوف على ملابسات عملية الإعدام، غير أنه بيّن أن الغرض منها استخلاص الدروس لعدم تكرار مثل هذه الأفعال. على الرغم من تأكيد البزم أن القتل جرى على أيدي مسلحين من فصائل المقاومة الفلسطينية، إلا أنه يبيّن أن اللجنة تحقّق في ظروف إعدامهم بالتنسيق مع فصائل المقاومة التي كانت تعمل في الميدان للوصول إلى حقيقة ما جرى بالتحديد ومعالجة أي إشكاليات قد تقع في المستقبل!
ويلفت إلى أن جزء من التحقيق في اللجنة هو للتوصّل إلى " كيفية هروب المتهمين المعدومين" وإلقاء فصائل المقاومة القبض عليهم ومن ثم معرفة المعلومات الموجودة لديهم والإثباتات. نافياً بشكلِ قطعي تهمة "اختطاف" المسلّحين للمتّهمين من سجن الكتيبة. متابعاً :"كنّا نجد صعوبة بالغة للحفاظ على حياة وأمن الموقوفين لدينا، قمنا بنقل الأمنيين منهم لأكثر من مكان خِشية استهدافهم، لكن خلال التنقّل هرب البعض، ويبدو أنهم اتجهوا إلى بعض المناطق الحدودية والخطوط المتقدّمة وتورّطوا في أعمالٍ عِدائية ضد الشعب والمقاومة، وحاولوا المساس بأمن المقاومة، وبالتالي ألقت القبض عليهم وأعدمتهم".
اتهام واهي.. غير أن المتحدّث باسم لجان المقاومة على ششنية، يؤكّد أنه لا علم لحزبه بفرار المتهمين بالتخابر مع إسرائيل من السجن. قائلاً إنهم لم يكونوا ينتظروا تلك المعلومات لعدم أهميتها :"أعطينا موافقة عامّة أننا مع قتل المتخابرين الذين تلطّخت أيديهم بدماء المجاهدين القادة، وسنقف إلى جانب الأجهزة الأمنية وقفة رجل واحد لتطهير مجتمعنا من هذه الفئة، لذلك لا حاجة لنا بتلك المعلومات". فيما تكشف منسّقة وحدة تقصّي الحقائق وإدارة الشكاوى في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بغزة المحامية صبحيّة جمعة أن معلومات توفّرت لدى الهيئة تفيد أنه حضر إلى السجن في الخامس من شهر أغسطس عناصر أمنية وطلبت أسماء أشخاص محدّدين لما قيل أنه سيتم نقلهم ضمن عمليات نقل داخلية.
وتضيف جمعة :"وتم بالفعل نقل خمسة أشخاص في ذلك اليوم، ومن ثم تم تبليغ أهاليهم للذهاب إلى مستشفى الشفاء لاستلام جثثهم. ونفس الحادثة حصلت في الثاني والعشرين من أغسطس، إذ جاءت أيضاً قوة أمن ونقلت أحد عشر نزيلاً من بينهم موقوفين، وأيضاً استلمتهم عائلاتهم جثثاً من الشفاء".
وللتأكّد أكثر، بحثنا في محرّك البحث "جوجل" عن أخبار منشورة حول فرار سجناء أمنيين متّهمين بالتخابر مع إسرائيل خلال الحرب، غير أننا لم نجد ما يشير من قريب أو بعيد لهذا الأمر خلال الحرب أو بعدها، حتى في الموقِعَيْن الخاصّين بوزارة الداخلية ومراكز التأهيل في غزة. ناهيك عن عدم توثيق أي حركة تشير إلى فرار بعضهم في سجلات الوزارة وسجن الكتيبة الذي تبيّن أنه لم يُخلى خلال الحرب من أي سجين متّهم بالتخابر.
شهادات على مدار أكثر من شهر ونصف، أجرى معد التحقيق لقاءات مع خمس عائلات ممن قُتل أبنائها خلال الحرب على يد المسلحين، من بينهم موقفين، وآخرين محكومين سنوات وإعدام من قبل المحاكم العسكرية التي حوكموا أمامها قبل الحرب، في انتظار البت في الاستئناف. "أ.ج"، والد أحد المعدومين الموقوفين منذ نحو عامين على تهمة التخابر مع إسرائيل، يقول في شهادته إنه ذهب إلى السجن يوم الخميس الموافق الحادي والعشرين من أغسطس لإيصال طعام الإفطار لابنه الذي كان صائما آنذاك، فيما تفاجأ في اليوم التالي بإعدامه ميدانيا بخمسة وثلاثين رصاصة. ويضيف :"لم يفرّ ابني من السجن، والدليل أنني طلبت من الحرّاس إحضار المُرجع من الأواني والأدوات الخاصّة به منه مباشرة، وبالفعل جاءوا بها وأعطوني إياها، واتصل بي من داخل السجن بعد ساعات وشكرني على توصيل الطعام له". وأجمع محامو المتهمين المعدومين الذين التقيناهم على أنهم لم يهربوا، وإنما اقتيدوا من سجن الكتيبة ليتم تنفيذ الإعدام بحقهم. حيث يؤكد إيهاب جبر، محامي ستة منهم، أنه ومن خلال سؤاله للأمن المتواجد داخل سجن الكتيبة تبيّن بأن موكّليه اقتيدوا أثناء الحرب من السجن في ساعةٍ متأخرة من الليل وتم إعدامهم. جرم مشهود مع تأكيد الكثير من الجهات التي التقيناها كالادّعاء العام والقضاء العسكريين وعدد من الحقوقيين ووزارة الداخلية في غزة، على أن عمليات الإعدام غير قانونية. بالإضافة إلى وجود العديد من الصور والفيديوهات التي تؤكّد ارتكاب عملية الإعدام في وضح النهار وأمام مرأى آلاف المواطنين. ناهيك عن حصولنا على العديد من تبليغات الوفاة لعدد من المعدومين، والتي تؤكد وفاتهم رميا بالرصاص. كل تلك الأدلة تقودنا إلى جريمة مركّبة مكتملة الأركان. وتنص المادة 26 من قانون أصول المحاكمات الثوري الفلسطيني للعام 1979 على أن :"الجُرم المشهود هو الذي يُشاهَد حال ارتكابه أو عند الانتهاء من ارتكابه. بالإضافة إلى الجرائم التي يُقبض على مرتكبيها بناءً على صراخ الناس إثر وقوعها أو يُضبط معهم أشياء أو أسلحة أو أوراق يُستدل منها أنهم فاعلوا الجرم وذلك في الأربع والعشرين ساعة من وقوع الجرم ، أو إذا وجدت بهم هذا الوقت أثار أو علامات تفيد ذلك". فيما تتحدّث المادة 36 منه على أنه "إذا مات شخص قتلا أو بأسباب مجهولة باعثة على الشبهة فيستعين المدّعي العام بطبيب أو أكثر لتنظيم تقرير بأسباب الوفاة وبحالة جثة الميت وله أن يطلب من طبيب أو أكثر القيام بتشريح الجثة". وحتى موعد نشر التحقيق، مرّ على إعلان وزارة الداخلية بغزة تشكيل لجنة للتحقيق في عمليات الإعدام أكثر من ثلاثة أشهر، ولم تعلن عن نتائجها بعد. لطالما كانت القاعدة الإنسانية والقانونية الأصيلة "المتّهم برئ حتى تثبت إدانته"، هي الفيصل ما بين الإدانة أو البراءة لحثها القائمين على القانون للبحث والتحرّي للتأكيد أو النفي لما نُسب لأي شخص متهم، إلا أن الآية انقلبت، إذ أُدين المتهمون مباشرة، وكان مصيرهم الإعدام!!
عن اخباريات