خبر : الأبنودي : البعض مصمم «يكرهنا فى الثورة»

الجمعة 17 أكتوبر 2014 02:20 م / بتوقيت القدس +2GMT
الأبنودي : البعض مصمم «يكرهنا فى الثورة»



القاهرة وكالاتلا أحد يصدق هذا الكلام عن شاعر عاش يحلم بالبيوت مثل حبات الخرز.

الطريق من بوابات مدينة الإسماعيلية وحتى قرية الضبعية، حيث يقيم الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى، طريق له سحر وشجن، فى أجواء خريفية وشمس «تتخبى ورا ضهر الشجر»، وأنت يأخذك الحنين لزمن لم تعشه، على شريط ساحلى يسمى «مدن القناة»، كأنك خرجت للتو من أحد كادرات فيلم «حكايات الغريب».

الحالة، يضاعفها أنك متجه لزيارة شاعر منح تلك الأيام أغانى من قبيل: «عدى النهار» و«أحلف بسماها وبترابها» و«ابنك يقول لك يا بطل»، حتى أنك تتساءل فى لحظة عن سر اختيار الرجل لهذا الجانب من البلاد والانتقال للحياة فيه. لو أن المسألة هى نقاء الجو وتعليمات الأطباء، فهناك أماكن كثيرة تحقق هذا بامتياز، لكن الأمر أبعد من هذا، تشعر أنه لو لم يكن صعيديا لودّ أن يكون ابن ضفة القناة، أو ربما للمبدعين الكبار قدرة على تتطبيع الأماكن، لتصير جزءا من أرواحهم، وتحل محل جواز السفر.

«الليل جدار..

إذ يدّن الديك من عليه، يطلع نهار..

وتنفلت من قبضة الشرق الحمامة أم الجناح..

أم الجناح أبيض فى لون قلب الصغار..

آه يا حبيبتى يا أم خصلة مهفهفة..

قلبى اللى مرعوش الأمان،

لسه بيحلم بالدفا..

والشمس كلمة طيبة وفيها الشفا..

قلبى اللى كان قرَّب يموت

لسه بيحلم بالبيوت، زى الخرز.........».

رغم روح الطريق، يسيطر التراث الصعيدى على بيت الأبنودى. اللافتات الصغيرة، المشغولة بالنحاس، ملصقة على واجهات غرف بيضاء بنيت فى الساحة المحاطة بالخضرة، على اليمين وأنت داخل من البوابة الرئيسية ترى «المندرة» وبجانبها «بيت الماء» وفى الجوار «الديوان» قبل أن تتجه إلى مقر «الدار». والدار تغطى حوائطها الكتب، لتحتوى على جلسة دافئة وسط صحبة هرعت إلى هناك للتأكد أنه بخير.

تود لو تنقل له كل كلمات الأحبة وسلامهم واحدا واحدا، وعتاب بعضهم أحيانا، لولا ضيق الوقت والخوف من إنهاكه بالكلام، فى زيارة جمعت عددا من الأبناء والأصدقاء، الكتاب:

محمد المنسى قنديل وشعبان يوسف وإبراهيم داود وطارق إمام وأشرف عبدالشافى وشريف حلمى، جلسوا حوله كما حكيم الجبل. الحضور الكبير الذى يستوى ويتوهج بمرور الوقت، لا يحوشه بعض الوهن الذى أصاب جسدا مثل شجرة وارفة ذات جذع قوى. الذهن يقظ وسرعة البديهة لا تخون صاحبها، «الإفيه» الذى لا يرحم، والذى يصبح مضحكا خفيفا إذا طال أحد الأصدقاء من الحاضرين أو الغائبين، ويتحول إلى منتهى العمق والوجع عندما يناله هو شخصيا. يعطيه الكاتب الكبير محمد المنسى قنديل أحد إصداراته، فيبارك له على الكتاب الجديد قبل أن يكمل:

«هاعيشلك مخصوص لحد ما اخلص قرايته» ويضحك..

يسألونه عن الشعر والثورة، فيتذكر 25 يناير، ويبدى اندهاشه من المنحازين لها دون 30 يونيو، ومن المنحازين، أيضا، للأخيرة على حساب الأولى.

ويقول: «البعض مُصر يكرهنا فى الثورة».

يتذكر الجالسون، وكلهم من المشاركين فى الثورتين، أثر قصيدته «الميدان» التى باتت إحدى تيمات التحرير الكبيرة. مجموعات تلتف فى كتل، كل حول راكية نار، يتسلى بعضهم بالغناء وبعضهم داهمه الصمت. وهناك، على بعد نسبى، ثمة فتية تروح وتجىء فى حركة آلية، عند بوابات الميدان يُطَمئنون بعضهم البعض ويبتسمون، وآخرون من كبار السن راحوا يحتمون بالخيمات المتناثرة فى الأرجاء من قسوة برد يناير. هؤلاء، انتفضوا للصوت الذى هاجمهم من السماء، أخذوا وقتا إلى أن استوعبوا الأمر، طائرات تنقض على ارتفاعات قريبة فوق رءوسهم، لعلها ترعبهم ويخلون المكان، لكنهم كانوا أشد، ولم يرحلوا.

فى الصباح التقطت الآذان صوتا فخما، رممّ آثار ليلة الأمس، وكان دعامة من خرسان، بصدى يتردد فى الأنحاء:

«أيادى مصرية سمرا.. ليها فى التمييز..

ممدودة وسط الزئير.. بتكسر البراويز..

سطوع لصوت الجموع.. شوف مصر تحت الشمس..

آن الآوان ترحلى.. يا دولة العواجيز..

عواجيز شداد مسعورين.. أكلوا بلدنا أكل..

ويشبهوا بعضهم.. نهم وخسة وشكل..

طلع الشباب البديع.. قلبوا خريفها ربيع..

وحققوا المعجزة.. صحوا القتيل من القتل.........».

الشباب البديع، يعتب البعض منه على الشاعر الكبير، بسبب شىء من آرائه التى يختلفون معها، والعتاب مشروع، غير أن النهش والتجريح لا يسىء للخال بقدر ما يسىء للنهّاشين، وبقدر ما يضر، للأسف الشديد، بالحركة الأهم فى تاريخ مصر المعاصر، بغض النظر عن نتائجها.

لكن ساعة الجدّ مِصفاة لا تحتمل الاختلاف، وتطغى معها المحبة على الحماس، وعلى الراديكالية أحيانا، فلا يمر خبر الوعكة الصحية لصاحب «العيال والأرض» مرور الكرام، وتجد الحقيقيين وقد نحّوا المرارة جانبا فى «خضّة» على صحة الرجل صاحب القامة الرفيعة، يقول أحدهم: «بادعيله بالشفا وتتحرق السياسة»، وتلخصها الزميلة العزيزة دينا قابيل:

«زعلنا منه أيوه. لكننا نتمنى له الصحة والعمر.. لأنه تاريخ ونضال ومشاعر كتير جميلة لا توصف إلا بسماعه حين يلقى بقصيدة حراجى القط وينادى على يامنة، أو يقطع قلوبنا مع صوت عبدالحليم وهو يغنى الأغانى الوطنية، وننهنه بالبكاء فى قاعة نقابة الصحفيين حين مات الكبير محمد عودة ونعاه الأبنودى شعرا. اللهم اشفه ليرى حب الناس له ونعاود زعلنا منه من جديد».

ولكن لماذا «الزعل»؟ تكاد تسمعه يقولها، ويتأمل كلاما قاله لنفس الشباب فى مرحلة سابقة:

«تغازل العصافير قُضبانها.. زنزانة لأجلَك كارهة سجّانها..

دُوق زيّنا حلاوة الزنازين.. على بُرشَها بتمِدّ أطرافك..

سجّانك المحتار فى أوصافك.. مهما اجتهدْ ماحيعرف انت مين..

فى العتمة عاتِب مصَر وِدَاديها.. إنت اللى روحك من زمان فيها..

توأم.. فى لحظةْ عِشق مولودين.. طوبَى لكل المسجونين باطل..

فى زمن.. بيخدعنا وبيماطل.. يا شموس بتبرُق فى غُرَف عِتْمين.........».

سيبك من السياسة وطمننا على صحتك يا خال؟ يسأله أحدهم.

يجيب بأن هناك بعض المشاكل فى إحدى الرئتين، لكنه لم يذهب إلى المستشفى «عندما اشتد التعب منذ أيام، جاءتنى عربة الإسعاف، لكننى رفضت الذهاب معها، وأعطيت الطبيب نتائج بعض الأشعة والتحاليل التى كنت أجريتها مؤخرا، بحيث يفحصونها ثم يأتون إلى إذا كان هناك جديد، وقد أجروا بعض التعديلات الخفيفة فى الدواء الذى آخذه».

الأبنودى من شعراء العامية القليلين جدا، الذين استطاعوا الخروج بهذا الجنس الأدبى من الحيز الضيق لمحلية اللغة، والانطلاق بها إلى البعد العربى، حتى أنه أول شاعر عامية ينال أرفع جوائز الدولة، وجائزة عربية كبيرة هى «جائزة محمود درويش للإبداع العربى». هو صاحب مشروع كبير، لا يتوقف عند نجاح واحد، يتجاوز نفسه يوما بعد يوم، حتى بعض القصائد التى كتبت بمناسبة، عاشت أبدية الشعر:

«أماية.. وانت بترحى بالرحى..

على مفارق ضحى.. وحدك وبتعددى..

على كل حاجة حلوة مفقودة..

متنسنيش يامّه فى عدودة..

عدودة من أقدم خيوط سودا فى توب الحزن..

وحطى فيها اسم واحد مات..

كان صاحبى يامّه.. واسمه ناجى العلى.........».

يقولها، ويعطى ظهره للجمهور عاقدا يده خلفه، على غرار «حنظلة» الشخصية التى اخترعها الفنان المناضل الفلسطينى ناجى العلى، لتضج القاعة بتصفيق عاتى، للقصيدة وصاحبها والمكتوبة عنه. ومن بين مرثيات الأبنودى الفاتنة، أيضا، قصيدة نادرة، تسمعها كاملة ذات مرة من الكاتب حمدى عبدالرحيم، وتذهب للبحث عنها فلا تجدها، حتى تكتشف، بعد فترة، أنها منشورة فى العدد الثانى من مجلة خطوة التى أسسها الكاتب الكبير يحيى الطاهر عبدالله مع بعض الأصدقاء، ثم يرحل يحيى قبل صدور العدد الثانى، فيخصصون العدد لرثائه، وينتع الأبنودى واحدة من أجمل المرثيات: «عدودة تحت نعش يحيى الطاهر عبدالله». تتذكر، بالكاد، بعض أبياتها:

«يا يحيى يا عجبان يا فصيح.. يا رقصة يا زغروتة

إتمكن الموت من الريح.. وفرغت الحدوتة

كنا شقايق على البُعد.. وع القُرب شأن الشقايق

أنا كنت راسم على بُعد.. وخانتنى فيك الدقايق

حرة كطير البرارى.. أسماء وعاش المسمى

دلوقت بتنام جوارى.. فى فرشتك يا ابن عمي

أبويا مات السنة دى.. وأمى بتموت وتحيا

ما مد لى الموت أيادى.. إلا فيك انت يا يحيى

آخر حروف الأبجدية.. أول حروف اسم يحيى

للموت كمان عبقرية.. تموت لو الاسم يحيى...».

والقصيدة العامية، بشكل عام، انتقلت بسبب الأبنودى نقلة مهمة تاريخية، عبر لغة متفردة واستغراق كبير فى خصوصية التجربة، حتى أصاب عدة عصافير بحجر واحد، وعلى رغم النجاح المدهش لقصائده الكثيرة التى غناها رموز الغناء العربى، إلا أنه لم يُسجن، على الإطلاق، فى خانة الشعر الغنائى، قصائده التى لم تغن وجدت الاحتفاء ذاته جماهيريا ونخبويا على السواء، يقول للجالسين فى رحلة الاطمئنان عليه، فى دردشة حول الفروق بين الأجناس الأدبية:

«بالنسبة لى الشعر لما بييجى بيقعدنى عشان يخرج منى، وما ليش أى يد فيه، بعكس ما يمكن أن يحدث مع القاص أو الروائى الذى يتعارك مع الكتابة حتى يصل لمبتغاه، ربما يحدث لى هذا فقط عندما أجلس لكتابة أغنية، حيث يكون مطلوبا منى فكرة بعينها أحاول الحوم حولها حتى ألتقط مفاتيح كتباتها، لكن الشعر، فيأتى وحده».

وأنت لا تستطيع الحديث عن الأبنودى، دون التعرض إلى مشروعه الكبير لتجميع السيرة الهلالية، هذا العمل الأدبى الذى يعتبره البعض الأكبر فى تراث الأدب العربى، حيث قرابة مليون بيت من الشعر الذى يروى تغريبة «بنى هلال» من نجد إلى الشام والعراق وصولا إلى شمال أفريقيا، استطاع الشاعر الكبير أن يلملمها عبر رحلة طويلة قضاها بحثا عن أطرافها، رحلة قاربت العشرين سنة، جمع خلالها نصوصا وتسجيلات وراح يعمل على دراستها وتحليلها، شارحا كل ما يتعلق بهذا الفن الشعبى الكبير، تحضيرا لتقدمه بين خمسة أغلفة هى «خضرة الشريفة» و«أبوزيد فى أرض العلامات» و«مقتل السلطان سرحان» و«فرس جابر العقيلى» و«أبوزيد وعالية العقيلية».

عاش نشأة فقيرة جدا، ألهمته قصائد أشبه بالجداريات الكبرى، أبطال حياته تجسدوا لنا شعرا، بداية من الأم «فاطمة قنديل» والعمة «يامنة» ومرورا بـ«حراجى القط» و«أحمد سماعين» الذى اعتبرت الكاتبة صافيناز كاظم أن سيرته هى «التقطير الأنقى لكل خطوات عبدالرحمن الأبنودى فى مشواره الفنى والوفاء الصادق لحق عليه حمله فى عنقه ولم ينكره نحو بلده وناسه وإخوانه المطمورين فى جوف المناجم الفعلية والمعنوية، ليس مصادفة أن يعتمل كل الذى نراه خلال الرواية فى صدر (أحمد سماعين) وليس من مصادفة أن يختاره الأبنودى.. إنه بذلك يحكى سيرتنا.. نجد فى سيرة أحمد سماعين ما ليس هو سيرة أبوزيد الهلالى، فإنها سيرة بطل بدأت بطولته عندما وضع يده على جسم حقيقته، وقال: أنا مهزوم.. ثم تساءل.. لماذا؟».

وأبطال آخرون غيرهم، وما أكثر الذين استمتع المتلقى العربى بسيرهم الدالة فى شعر الأبنودى، ليس فقط على المستوى البسيط لحالات نضال وشقاء مصرية متنوعة، ولكن أيضا على مستوى اللعب فى الوجدان الإنسانى، مما يجعلها قصائد صالحة لأزمنة وأمكنة مختلفة، غير مرتبطة بلحظة تاريخية بعينها. هى الوظيفة الخالدة للشعر، بل للفن فى العموم:

«عارفه يا مرتى الراجل فى الغربه يشبه إيه؟

عود دره وحدانى.. فى غيط كمون..

حسيت بالخوف.. ناشع فى عروقى زى البرد..

قضينا الليلة الأولانية فى أى مكان..

العين مشقوقه.. والبال،

زى الغله اللى بتسرسب من يد الكيال.........»

ربما ليست مبالغة لو قلنا إن هذه النوعية من أشعار الأبنودى، تصل رائحتها أنفك تماما، وأنت تجلس معه داخل صالة «الدار»، المكان ملىء بصور الأحباب، على يمينك بالضبط صورة لفاطمة قنديل مع ولدها عبدالرحمن، تقابلها تماما صورة لابنتيه آية ونور، وبعض الصور الأخرى المتناثرة على الحائط، تميز أنت منها واحدة مع الكاتب الكبير نجيب محفوظ وأخرى مع الأستاذ هيكل، وتجول بعينيك محاولا البحث عن العمة يامنة فلا تجدها، ويشرد ذهنك فى وجه الخال:

والله وشبت يا عبدالرّحمن

عجّزت ياواد؟

وكيف عاد اللى يعجّز

فى بلاده.. غير اللى

يعجّز ضيف؟

... حتيجى العيد الجاى؟

واذا جيت.. حتجينى الجاى؟

وحتشرب مع «يامنة» الشاى؟

حاجى ياعمّة.. وجيت،

لا لاقيت «يامنة» ولا البيت..