إن كل فلسطيني سافر إلى الخارج عبر "معبر رفح المصري" تحتضن ذاكرته شيئاً من مشهد الحدث ومواجعه الأليمة، ليس بسبب البطء في الإجراءات وطول ساعات الانتظار، ولكن لحالة القلق التي تنتاب المسافر منذ أن يبدأ عملية التجهيز والإعداد لشد الرحال، حيث يجد نفسه محتاجاً إلى كل دعاء؛ فمن بركة دعاء الوالدين لحظة مغادرة البيت، إلى دعاء السفروالتمتمات الإيمانية)وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)، كل ذلك بأمل اجتياز الصراط الأمني وتخطي ملفه للموانع والعقبات، حيث يظل الواحد من هؤلاء المسافرين يلهجلسانه بهذا الدعاء دون انقطاع، وذلك منذ اللحظة التي يغادر فيها الأتوبيس الجانب الفلسطيني متوجهاً إلى الجانب المصري من المعبر.
في الحقيقة، إن مصدر هذا القلق والخوف والترقب هو أن يكونضمن لائحة "المرجعين"، وذلك بعد كل ما بذله من جهد في عملية الإعداد والاستعداد،لاعتبارات تتعلق بكونهمن غير الفئات المسموح لها بالعبور، أو أن اسمه "مدرج" على قوائم المغضوب عليهم من الفصائل والتنظيمات،أو أنه بحاجةلترتيبات وتنسيق مسبق، وهي حالة تنسحب على الجميع، ولا يسلم منها الكثير من عليَّة القوم إلا من رحم ربي، وخاصة من طبقة المفكرين والسياسيين والمثقفين وأولي النهى.
إن الكل في صالة الانتظار سواء، لا فرق ملحوظ على شكل المعاملة، فنحن هناك كأسنان المشط، لا فضل لأحدٍ منّا على الآخر، الكل ينتظر أن تتنزل عليه "شآبيب الرحمة"، ويأتي ذكره بالقبول، حيث تتهلل أسارير وجهه بالبشر والحبور، أما من يأتيه الأمر بالعودة من حيث أتى، فترى وجهه مسوداً وهو كظيم،وصدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعد في السماء.
ربما تبدأ معاناة البعض من معبر رفح على الجانب الفلسطيني، ولكن مشاعر القلق والمخاوف الحقيقية هي تلك التي يحملها الطالب والسياسي والمريض وأصحاب الإقامات الخارجية، وكل صاحب مصلحة أو غرض من وراء هذا السفر.
لمصر حبي وفؤادي وكلمات أخرى..
في الأسبوع الماضي، تلقيت وعددٍ من القيادات السياسية الفلسطينية دعوة من حزب الأصالة والمعاصرة المغربي، وذلك بهدف المشاركة في بعض اللقاءات والفعاليات المجتمعية في العاصمة الرباط، وقد أخبرتنا أكثر من جهة لها وزنها الاعتباري أن هناك تنسيقاً للوفد مع الجهات الأمنية المصرية.
تحركنا في الصباح باتجاه معبر رفح على الجانب الفلسطيني، حيث كان ثلاثتنا؛ الأخت آمال حمد، والدكتور سمير أبو مدللة وأنا، إضافة لشخصين آخرين ولكن بترتيبات سفر مختلفة.
بصراحة لم تكن حالة التفاؤل بالنسبة لي عالية، بسبب الظروف التيتمر بها علاقتنا بالشقيقة مصر منتوترات وانفعالات وتبادل اتهامات.. ولكن، قلت نُجرِّب، فلعل وعسى، خاصة أن علاقتي الرسمية والشخصية بالكثير من القيادات المصرية في الدائرتين الأمنية والسياسية هي علاقة مودة واحترام، وكتاباتي ومواقفي كانت دائماً تخدم الخط الذي يعزز من مكانة مصر ويوطد أركان العلاقة معها، ويشيد بدورها الريادي والتاريخي تجاه قضيتنا الفلسطينية، كما أن طبيعة تكويني ودراستي الجامعية في القاهرة، وإقامتي الطويلة في مصر - قرابة ست سنوات –تجعلني أشعربأنني واحد من أبناء أرض الكنانة، حيث أعرف عن أحوال مواطنيها ومحافظاتها، وتاريخها وآثارها،وشعرائهاوفنَّانيها، ومدارسها الفكرية والدينية ربما أكثر من الكثيرين من أهلها. لذلك، فهي من بين أحب بلاد العرب إلى قلبي، وأجد نفسي ممزوجاً وجدانياً بعراقتها التاريخية، ومشدوداً ثقافياً لمكتباتها ومعالمها الحضارية، ولكثيرٍ من وجوه الأصدقاء الذين سبق أن عرفناهم أو تعرفنا عليهم خلال سنوات الدراسة في كلية الهندسة بجامعة الأزهر في فترة السبعينيات.
إنلمصر مكانة مميزة في قلوبنا جميعاً نحن الفلسطينيين، وخاصة نحن الذين سبق لنا الدراسة فيها والتخرج من جامعاتها، حيث تهفوا قلوبنا لها بشوق دائم، وذلك لاعتبارات كثيرة، وقديماً قالوا: "لا يعرف الشوق إلا من يكابده"، وتحديداًبين فئات المثقفين والسياسيين وطلاب العلم والطامحين للشهرة والنجومية.. فبالنسبة لي أن يمرَّ عامٌ لا نزور فيه مصر المحروسة، حيث قاهرة المعز بأحيائها العتيقة، ومكتباتها العريقة، ومصاطب العلم والأدب، وأهراماتها الشامخة، هو عامٌ نألم فيه ونتوجع.
المحطة الأولى: معبر رفح
في ظل حالة الانقسام التي سادت علاقاتنا الفلسطينية لأكثر من ثمان سنوات، كانت هناك دائماً على المعبر عقبات تعترض كل واحد من قيادات فصائل العمل الوطني والإسلامي، ولكن بعد أن تحققت المصالحة وانجابت غمة الخلاف كان التوقع ألا نعود إلى تلك الممارسات التي نعتب فيها على الآخرين.. كانت العقبة الأولى في الرحلة - والتي فاجأتنا للحظات - أن الأخت آمال حمد؛ وهي عضو باللجنة المركزية لحركة فتح، تحتاج إلى موافقة أمنية للخروج من معبر رفح الفلسطيني.!!
بدأت اتصالاتي بعدد من الإخوة المسئولين لفك هذا الحجز والسماح لها بالسفر؛ حيث إن مهمتنا "وطنية بالدرجة الأولى"، ونحن نعيش أجواء تصالح وتوافق وطني، ونبحث عما يجمع الصف ويحقق التوافق، وليس الظرف مناسب للمناكفات؛ فالوطن كله مهدد، والكل بحاجة لأخيه الآخر.. دقائق وكانت تعليمات الأخ صلاح أبو شرخ؛ المسئول الأول عن ملف وزارة الداخلية بقطاع غزة، بتسهيل مهمة سفر الأخت الكريمة.
انتقلنا بسيارة التشريفات للجانب المصري من المعبر، وبدأت اتصالاتنا ومساعينا لتسهيل وتعجيل الإجراءات، لنكتشف بعد أكثر من ساعة عدم وجود أي تنسيق لنا على الجانب المصري، وأن هناك ما يحتاج لبعض الوقت لبذل الجهد والمحاولة، وهذا يعني الانتظار في الصالة المكتظة بالمئات من المسافرين.
كنت أعلم أن فرصتي محدودة، فأنا مستشار سياسي سابق لرئيس الوزراء إسماعيل هنية، كما أنني كنت وكيلاً لوزارة الخارجية، وسفري هذا يستدعي تنسيقاً خاصاً مع جهاز المخابرات العامة أو المخابرات الحربية.
تبادلنا ثلاثتنا الرأي والمشورة، وقلت للدكتور سمير إن بإمكانكما السفر دوني، لا داعي لتعطيل سفركما بسببي.. لكنَّ الموقف والقرار من جهة رفيقي السفر - وخاصة الأخت آمال حمد - كان واضحاً: إنها ستعمل على مواصلة الاتصال مع الجهات المختصة من أجل أن نسافر ثلاثتنا معاً، وإذا تعذر ذلك فلن تسافر وحدها.
استمرت المحاولات والاتصالاتوساعات الانتظار لأكثر من ثلاث ساعات، ووصلنا إلى لحظة الحقيقة؛ الأخت آمال بإمكانها أن تسافر الآن، أما أنا والدكتور سمير أبو مدللة فنحتاج إلى تنسيق مسبق.. كان قرار الأخت آمال هو العودة إلى غزة، تضامناً معي ومع الدكتور سمير؛ حيث إن أحد الأهداف من وراء هذا السفر هو إظهار شكل التئام الصف الفلسطيني، وأننا نقف موحدين خلف قضيتنا الوطنية، وأن الحرب العدوانية على قطاع غزة طالتنا جميعاً؛ لا فرق بين فتح وحماس، حيث دافعنا جميعاً كفلسطينيين عن تراب وطننا الغالي، ودفعنا جميعاً أكلافاً عالية من الشهداء والجرحى، وتحملنا جميعاً بربرية الاحتلال وعدوانه.
وحيث إن الإنسان في خلاصته يبقى موقفاً يلتصق بالذاكرة، فأنا أجد أنه واجب عليَّ التذكير بأن ما قامت به الأخت آمال حمد من موقف كان يعبر عن حس وطني ولفتة كريمة وشعور أخوي تضامني،وهو يستحق الإشادة والذكر، وقد تمنيت على د. سمير- الذي كنت أظن أن أمر سفره ميَّسراً - أن يواصلا طريقهما إلى القاهرة، فأنا أعرف الصعوبة التي تعترض سفري، ولكنه قال: إنني والأخت آمال قرارنا واحد؛ نذهب جميعنا إلى المغرب أو العودة معاً إلى قطاع غزة.
وفعلاً عدنا إلى غزة، على أمل أن نعاود المحاولة بعد عيد الأضحى، وبعد التأكد من وجود تنسيق مسبق للجميع.
ملاحظات وانطباعاتومشاهدات
- لا شك أن كل مسافر إلى المعبر سيلقى بعض المضايقات والعنت، لأن الأوضاع الأمنية على الجانب المصري في سيناء ما تزال غير مستقرة.. ولذلك، فإن التوتر داخل المعبر مفهوم، وعلينا أن نتحمل ونصبر، ولكن الذي جعلني أشعر بجرح الكرامة هو وجود أعداد لا بأس بها من الشخصيات الاعتبارية، وقيادات الفصائل المعروفة، محشورة في صالة الوصول المصرية بلا تسهيلاتتقدر منزلتها وتحفظ هيبتها، خاصة وأن البعض منهم يتمتع بوضعية (VIP) أينما حلَّ وارتحل.. أتذكر أنني كنت استقبل - أحياناً - على باب الطائرة،ثم يأتي من يصطحبني إلى صالة كبار الشخصيات، وذلك في أكثر من عاصمة عربية وأوروبية. واليوم، ونحن بين أهلينا في مصر نجد أنه لا كرامة لأحد منَّا ولا خصوصية.!!
كان البعض يعلق على الحالة التي كنا عليها داخل الصالة، بالقول: "معلش يا دكتور.. إللي ما يعرفك يجهلك"، صبرٌ جميل.
لقد تعلمنا في أدبياتنا الإسلامية وأخلاقياتنا السلوكية مقولة "أنزلوا الناس منازلهم"، "ولا تنسوا أولي الفضل منكم".. نعم؛ كانت تجرحنا بعض التصرفات، ونكظم الغيظ؛ لأن ظلم ذوي القربى شديد المضاضة، ونحن في أمتنا شعب عظيم وسجل من البطولات والأمجاد، ولا نقبل بمثل هذا التعامل والاستعلاء.
إنمصر المحروسة عزيزة علينا، وهي للكثير منَّا بمثابة الأخ القريب والجار الحبيب، ندين لجامعاتها بالولاء الفكري، وللحركة الوطنية المصرية بنهضتنا السياسية، وللبيئة الاجتماعية بالنسب والمصاهرة.ولذلك، فإن توقعاتنا هي أن نجد التسهيلات والاحترام، وليس ما نشاهده من تصغيرٍ للشأن والمقام.
- أتذكر عندما كانت تأتينا وفود التضامن مع قطاع غزة من كل فجٍّ عميق؛ عرب وعجم، وكانت تصطدم بتعقيدات الدخول إلى قطاع غزة، فتطلق العنان لألسنتها تكيل الشتم لمصر الحبيبة بكل اللغات، وعبر شاشات التلفزة المختلفة.. كانت هذه الممارسات تؤلمني، حيث كنت وقتها رئيس الجنة الحكومية لفك الحصار واستقبال الوفود، فالإساءات الجارحة لا تليق بهذا البلد العظيم وأهله الكرام.. كانت تمر أحياناً الأيام والليالي وكيل الشتائم لا يتوقف ولا ينتهي.. كنت أحاول مناشدة إخواننا المسئولين بوزارة الخارجية وجهاز المخابرات العامة العمل على تسهيل مهمة دخول هؤلاء الشباب والأصدقاء الطيبين، الذين وفدوا من كل أصقاع الأرض للتضامن مع أهل قطاع غزة، بهدف الضغط لرفع الحصار الإسرائيلي عنهم.. لا شك أن هناك – ودون علمٍ من الغالبية بينهم - من كان يعمل على دفعهم للصدام مع أجهزة الأمن المصرية، والتحريض بشكل مسيء لا يليق بكرامة مصر ومكانتها. نعم؛ كانت هناك مضايقات، ولكن حجم ردات الفعل كان مبالغ فيها، وللبعض من وراء ذلك غايات ومآرب أخرى.
للأسف، ما زال المعبر حتى اليوم هو عنصر إساءة وتوتير، ويؤثر بشكل كبير في علاقتنا الأخوية مع الشقيقة مصر.. نأمل أن يتحقق لمصر الحبيبة الاستقرار والأمن والأمان، حتى تعود لنا تلك الأحاسيس والمشاعر الطيبة "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين".
- اجتمعنا في الصالة المصرية للمعبر خلال تلك الساعات الطويلة من الانتظار ثلاثة وفود؛ وفد الجبهة الشعبية المتوجه للعاصمة السورية دمشق، ووفد مختلط من الفصائل الوطنية مسافر إلى تركيا للمشاركة في ملتقى "مبادرة إدارة الأزمات"، الخاص بالمصالحة الفلسطينية، والوفد المتجه للمغرب للقيام ببعض اللقاءات في ضيافة حزب الأصالة والمعاصرة.كنا نشاهد واقعنا داخل الصالة ويرمق بعضنا البعض الآخر كمن يقول له: انظر حالنا، نحن هنا لا نساوي شيء، أما في غزة كلنا أصحاب عنتريات وصنَّاع وطنيات، وحال بعضنا يقول: "اشتدي يا أرض ما عليكي إلا أنا".. انظر كلنا ملهوف على الخروج، ويلهث خلف هذا وذاك طلباًللمساعدة .!!
مشهد يبعث على الأسى والألم؛ فيا حسرة على العباد.!!
- في اللحظة التي علمت فيها أن الأخت آمال حمد ممنوعة من السفر على الجانب الفلسطيني، قلت للبعض من حولي: لماذا نلوم الإخوة في مصر إذا أساؤا معاملتنا؟
أليس من المعيب علينا أن نمارس الإهانة على بعضنا البعض؟ لماذا إذا اختلفنا في السياسة اشتد "ساعد الكيد"لكل منَّا على الآخر.!! وتعاظم بأسنا على بعضنا البعض. نعم؛ هناك ممارسات لدى الطرفين؛ فتح وحماس، لا تليق بكرامة شعبنا العظيم وأخلاقياته العالية، لقد أفسد الانقسام علينا حياتنا السياسية والمجتمعية، وأخذنا بعيداً عما يجب أن تكون علية مدونة السلوك الأخلاقي لكل منّا.
أتمنى على كل أجهزتنا الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة التعامل باحترام وتقدير مع كل القيادات الوطنية والإسلامية والشخصيات الاعتبارية، وعلينا ألا نسمح لأحد بامتهان كرامة أحد على خلفية أية انتماءات فصائلية أو تباينات سياسية.
كما أرجو من الجميع العمل على رفع أية قوائم أو أسماء لشخصيات اعتبارية من على كل معابرنا الحدودية، فيكفينا أن الكثيرين منَّا – ظلماً - مطلوبون أو ملاحقون، وبالكاد مسموح لنا بالتنقل والسفر.. فلا ترهقونا بإجراءات أخرى على معابر الوطن.
وإلا فإن السفر موتٌ، والكل مطلوبٌ على كل المعابر.


