أصبحت الكتابة عن المصالحة الفلسطينية أمراً مملاً من كثرة التكرار، وأصبح حديث الناس عن المصالحة لا يخرج عن باب التندر والخيبة والانتقاد. فمنذ 2007 انقضت حتى الآن سبع سنوات عجاف، نفس عدد سنوات سيدنا موسى السبع، لكننا لا نبدو اننا امام سنة يبدأ فيها انهمار غيث الخير والاتفاق. ومنذ قدم أسرانا البواسل وثيقتهم الغنية والشافية لاستعادة وحدتنا الوطنية، هل يمكن حصر اتفاقات المصالحة التي احرقنا بلا مبرر يدخل الوجدان قبل العقل، اللهم إلا مبرر الحسابات التنظيمية، الوطنية المحلية منها، والخارجية. ما بقي قائماً من الوحدة الوطنية اتفاق ضمني مهلهل بإدارة الانقسام يحفظ خطاً واهناً من العلاقة الوحدوية، يبقى على حاله أو يزيد وهناً، حسب الظروف الخارجية قبل الداخلية.
ولم يكن متوقعاً أن يخرج عن لقاءات القاهرة (مرة أخرى، الثنائية فقط) التي جرت قبل يومين اي اختراق جدي ونوعي للحالة القائمة. وساد التوقع انها لن تخرج عن عمليات تدوير زوايا وتسكين قضايا وتأجيل الاتفاق الجدي والعملي على القضايا الأساسية.
وقد أتت النتائج بشكل عام في حدود المتوقع، مع تقدم افضل في موضعي مسؤولية حكومة الوفاق عن الإعمار وفتح معبر رفح، فرضهما حضور أهل غزة الضاغط بضرورة الإعمار وموقف أغلبية الدول المانحة ومصر التي تربط مواقفها بالتعامل مع السلطة الشرعية فقط. ويبقى هذا التقدم في دائرة الاختبار العملي التنفيذي.
ومع ذلك يمكن اعتبار نتائج هذا اللقاء، وأي لقاء، إيجابية في الوقت والظرف القائم، إذا ما توصلت الى اتفاق يتم احترامه في التطبيق على القضايا الأكثر إلحاحاً الآن، وفي مقدمتها: - الموقف الموحد في جولة المفاوضات غير المباشرة الثانية مع وفد الاحتلال. - تسريع إعمار القطاع وتوحيد الموقف والجهد حوله تحت المسؤولية التامة لحكومة الوفاق. - الاتفاق على فتح معبر رفح تحت إدارة حرس الرئاسة وحسب الاتفاق مع الحكومة المصرية. - عدم التشويش على التحرك الدولي الذي يقوم به الرئيس أبو مازن، حتى لو اختلفت المراهنات على فرص نجاحه، ووجدت شكوك حول جدواه.
ولكن على ضوء ما أظهرته الأسابيع الأخيرة من عمق الخلاف وأساسيته يبقى السؤال مشروعاً، هل وصلنا الآن إلى حالة من القناعة بصعوبة الحفاظ على الاتفاق الضمني والخط الواهن المشار إليهما؟.
هناك العديد من المؤشرات ان البعض وصل فعلا الى هذه الحالة، وان ما يمنع سيره فيها حتى نهايتها، هو عدم توفر الظرف الموضوعي المحيط الذي يمكّن من ذلك ويقبل التعاطي معه. وإذا كان الظرف الموضوعي لا يسمح الآن، فلا بأس لديهم من الإبقاء على ادارة الانقسام لكن على اساس المحاصصة التي لا تقبل القسمة إلا على اثنين، ومع الاحتفاظ بالسيطرة المنفردة على أجهزة وقوات وإدارات، وعلى تحالفات خاصة ايضا. إن البعض لا يرى الوحدة الوطنية وأهميتها الحاسمة بمنظار الوطنية الفلسطينية وبرنامجها التحرري وظروفها ومتطلباتها، ولكن يراها بمنظار برنامج فوق وطني، وبانسجام تام مع منطلقاته الفكرية وأهدافه. وهذا ما يقدم تفسيراً لقناعاته ورؤاه ومواقفه بالذات تجاه الوحدة الوطنية. ولا شك ان الوصول الى الحالة المذكورة يتوافق تماماً ويتأثر مع حال الانفراط والسيولة واللايقين الذي يقبل عليه الإقليم بأسره. ولا شك ايضا ان دولة الاحتلال تنظر بعين الرضا والحبور الى هذه الحالة وتفعل ما تستطيع من اجل إدامتها وتعميقها.
ليست المشكلة في التنوع الفكري والسياسي. وليست المشكلة في وجود انتماء الى فكر وجماعة فوق وطنية فقبل الآن كان هناك مثل هذا: تبني الفكر الشيوعي والانتماء بشكل او آخر الى أمميته وقيادته، او تبني الفكر القومي والانتماء الى احد أحزابه الجامعة (البعث والقوميين العرب). المهم، ان ذلك الانتماء فوق الوطني لم يتعارض مع الانتماء الوطني. المهم، ان ينخرط أصحاب هذا الانتماء في الإطار الوطني الفلسطيني الموحّد، والمشاركة في وضع وإقرار برنامجه النضالي الجامع وهيئاته القيادية، وان يعترف بالقوى الوطنية الأخرى المكونة لذلك الاطار على قاعدة التنوع والوحدة، وان يعترف بمراحل النضال الوطني التي سبقت بتضحياتها وإنجازاتها وإخفاقاتها. والمهم ايضا، ان يتم الاحتكام فقط الى قاعدتي الوحدة والديموقراطية ووسائلها المعروفة في حل التباينات والخلافات مهما كانت درجة حدتها. وأول واهم تلك الوسائل هي الانتخابات العامة.
المشكلة ان كل ما تقدم ليس حاصلاً: - فقضية الوحدة الوطنية لا تعالج من قبل البعض بمنطق الانتماء الوطني وأوليته، بل بمنطق وأولوية الجماعة الأم وفكرها وبرنامجها الفوق وطني وأهدافه. - نفس هذا البعض قاطع منذ قيامه ولا يزال الإطار النضالي الوطني الفلسطيني الموحد. وهو يرى في نفسه البداية للنضال الوطني الفلسطيني والبديل لكل ما كان، وما هو قائم، من قوى وإطار ومؤسسات. - وأما عن التغيير بالوسائل الديموقراطية وبالأساس منها الانتخابات، فهو لا يتعامل معها الا عندما تتطابق مع حسابات تفرده وتخدم تحقيق هذا التفرد.
فعندما كانت حساباته تظهر ان الانتخابات لن تعطيه الأغلبية التي تمكنه من التفرد كانت حراما، وأصبحت حلالا عندما أكدت حساباته انها ستعطيه أغلبية التفرد. وعندما أظهرت حساباته ان الانتخابات العامة ربما تعطيه أكثرية، ولكنها لا تكفي لتفرده، اتخذ موقف المماطلة والتسويف في الموافقة على إجرائها منذ ان تم إقرار إجرائها في اتفاق القاهرة ايار 2011.
يكفينا في الحال الذي وصلنا إليه ان نتفق على النقاط الأربعة التي تمت الإشارة إليها في بدايات المقال، وتفعيل بقية بنود اتفاق الشاطئ. ثم، تحديد موعد لإجراء انتخابات عامة شاملة حتى لو تأخر موعدها بعض الوقت بسبب الأوضاع في القدس، وحتى تأخذ مسيرة إعمار غزة مداها المناسب وتكتسب ديناميكيتها المستقرة.


