الحاخام يوفال شارلو، رئيس مدرسة تسوية في اسرائيل، كتب مقالا في موقع "يديعوت احرونوت" اعلن فيه: "لن نستسلم. سنواصل السفر بالمجان". ويظهر المقال تحت تصنيف "شؤون يهودية"، ويتحدث عن "الاخلاق" و "القيم". ربما لان شارلو، معلما ومربيا في مؤسسة تمولها الدولة وتسمح لخريجيها بخدمة قصيرة جدا في الجيش الاسرائيلي، يواصل طريق حاخامي الجاليات في اوروبا ما قبل الحرب العالمية الثانية والتي دعت رعاياها بان يواصلوا نمط حياتهم العادي، كالخراف الذين يساقون الى الذبح. موظف الدولة دوف ليئور، الحاخام الرئيس للخليل وكريات اربع وهو الاخر رئيس مدرسة تسوية في المكان، اوضح أمس في الفيسبوك بان اختطاف الفتيان هو عقاب من السماء، في اعقاب "القوانين التي قاسمها المشترك هو المس والتآكل في الطابع اليهودي لحياتنا العامة". ان اليمين الاستيطاني يحتفل بجنونه، كل الطريق الى الكارثة التالية.
مر اسبوع على اختطاف تلاميذ المدرسة الدينية، ولكن لا توجد أي بارقة معلومة عن مصيرهم ومكان تواجدهم. الاحتلال فشل. 47 سنة يبيعون لنا بان فيه اضطرار امني. وان قواتنا تعرف كل سنتيمتر في الضفة وان الاعتقالات والحواجز والدوريات تتيح تحكما عسكريا واستخباريا مطلقا في الميدان. وها هو انهار المفهوم. دوما ستكون ثغرة، دوما سيكون شيء ما. لا يوجد أمن محكم دون ذراع سياسي. من لا يريد فتح، تلقى حماس. من لا يريد حماس، سيتلقى القاعدة. من قصور الى قصور قوتهم ترتفع.
الاحباط والحرج تنفس عنه اسرائيل بالهرب الى الهوامش. ولكن الهوامش تتسع. الحكومة تقر تغذية قسرية للمعتقلين الاداريين المحبوسين لسنوات طويلة دون محاكمة. وحتى الموت بالتجويع الذاتي محظور عليهم. أي انتصار عظيم على الارهاب. صفحة الفيسبوك التي تدعو الى اعدام رجل حماس في كل ساعة حتى اعادة المخطوفين تنال عشرات الاف الاعجابات. هذه لحظة الارادة. المعقبون في "هآرتس" يدعون الى التخلص في هذه الفرصة ليس فقط من قتلة حماس بل وحتى من اليساريين العملاء الذين يكتبون مقالات في "در شترايمر". وهذا ينشر. ربما كبادرة شوهاء للقول الشهير المنسوب الى فولتير. شيء بروح: "أنا لا اتفق مع أي كلمة من ارائك ولكني سأكون مستعدا لان اقتل في سبيل حقك في أن تقتلني". لا يوجد مثل اكباش الفداء. شارون غال، شخص انتقل لبيع العقارات بعد أن عزل عن الانشغال بالصحافة الاقتصادية، يجري مقابلة في برنامج اذاعي مع النائبة حنين الزعبي على النمط الفاشي المطلق. ودولة كاملة تنشغل في اعقاب مقابلة مستثمر العقارات بـ "عار الزعبي" على حد قول عنوان رئيس في صفحة "اسرائيل اليوم" الاولى. وتحته يوجد عنوان آخر: "عناق ثلاث امهات". ثلاث امهات هذا على ما يبدو الامهات الاربعة الجديدة. في "يديعوت" في ذات الصباح العناوين الموازية كانت "اولاد الجميع" للقاء الامهات و "وصلتِ لنا حتى هنا" لقصة الزعبي. دولة صبيانية. دولة في حالة نكران. دولة في انعدام الوعي. دولة ترفض المرة تلو الاخرى رؤية الصورة الكبرى.
وفي هذه الاثناء، اتفق الجيش الاسرائيلي مع وزير المالية على العودة الى النشاط العادي بثمن حملة تنزيلات بمليار شيكل، حتى الاضراب الايطالي القادم. مشجع ومعذب، خرج الى العملية التظاهرية العلاقة التي بينها وبين الجهد المشروع لاعادة المخطوفين آخذة في الهزال. اجتياحات ليلية للثرثرة، :"من بيت الى بيت" بينما يعتمر الجنود اللثام الاسود وكأنهم ميليشيا مؤيدة لروسيا في اكرانيا وليسوا مقاتلين في جيش رسمي في دولة سيادية. ومئات الاعتقالات دون سبب (وهذا لا يعرف كاختطاف؟). حبس متجدد لمحرري صفقة شاليط، ممن تحرروا من اجل اعادة رهينة سابق الى بيته، والان يفترض أن يشكلوا ورقة مساومة لاعادة الرهائن الحاليين. دولة تطارد ذيلها نفسها الذي يهز لها بالطبع.
تحت رعاية الاختطاف يدفع بالمزيد فالمزيد من القوات الى معركة عسكرية رسمية ضد حماس، معركة لم يقرها المجلس الوزاري والحكومي على الاطلاق. بل انه لم تعرض بارقة اثبات ذات مغزى لهوية الخاطفين ولنوعية علاقتهم بقيادة حماس في الضفة أو خارجها. وأكثرت وسائل الاعلام أمس في تلميح مزعوم بانه قد يكون خالد مشعل هو الذي اطلق بلغة الشيفرة قبل شهر الرمز من قطر. وهذا في هذه اللحظة هو الانجاز البارز لاجهزة الاستخبارات الاكبر في العالم. هذا، وشريط المكالمة الى مركز طوارىء الشرطة والذي وثق فيه احد المخطوفين وهو يهمس ان خطفوه. انجاز صحفي. حتى انهم اعطوا الاهالي الفرصة للاستماع اليه.
هذه حرب عابثة. وهي تتسع الى جنين وغزة ايضا. والجميع ينجرف. شاؤول موفاز، الذي كان السياسي الاسرائيلي الوحيد الذي دعا ذات مرة في حكمته اللحظية للحديث مع حماس ايضا يعود ليدعو "للتجنيد"، "الاعتقال"، "السحق". محللون عسكريون، باستثناء الولي في صدوم عاموس هرئيل، يشجعون على استغلال الفرصة على حد قول اليكس فيشمان في "يديعوت احرونوت": "الفرصة لمرة واحدة لاغراق المناطق بالقوات العسكرية التي تساعد المخابرات على حل لغز العمليات التي لم يحل لغزها بعد. هذه حملة متدرجة آخذة في الاتساع واسرائيل ستستغل الامكانية حتى منتهاها".
للسحق، للاغراق، للتحطيم، حتى منتهاها. هذا يذكرنا بدعوات "شد، شد" في زمن الحصار على بيروت في اثناء الحرب العابثة الاولى في لبنان 1982. وبالفعل، الطوق يشتد كل الوقت. ومنذ اسبوع وهو يشتد. او في واقع الامر يتسع. فقد أصدر الناطق بلسان الجيش الاسرائيلي امس صورة للجمهور يظهر فيها جنود يستعدون للنشاطات في الضفة، والعنوان يصرخ: "النشاطات ستستمر دون قيود". ولكن للقوة توجد قيود. معظم الاسرائيليين يغمضون عيونهم ويرفضون الاعتراف بذلك. في عماهم لا يرون كيف يصبح جيش الدفاع لاسرائيل جيش الدفاع للمستوطنين، وجهاز الامن العام يعمل كجهاز امن المستوطنين. كم من المقدرات تستثمر منذ أربعة عقود في الضفة الغربية. كم من المقدرات تستثمر هناك اليوم. هذا لا يصدق.
وكل هذا يحصل رغم أن الاحتلال فشل. امنيا، وطنيا، استراتيجيا. وفقط للمستوطنين هو قصة نجاح. كما أنه لن يصمد 47 سنة اخرى. الضفة الغربية هي ليست التبن واسرائيل ليست الصين. في النهاية هذا سينتهي. في السنوات الاخيرة حاولوا ان يبيعوا لنا غوش عصيون كتوسكانا. محلات تجارية، مزرعة للاغذية العضوية. نفتالي بينيت اقترح فقط قبل اسبوعين ضمها وهذا هو. العالم سيعتاد، شرح قائلا. لعله تلقى الهاما من اسرائيليين. وقد اعتادوا. جاء الاختطاف الفظيع وعلى الاقل ذكر الاسرائيليين بان حقا على مسافة غير بعيدة من غوش عصيون توجد اماكن مثل يطا، حلحول وجبل الخليل. وللحاخام يوفال شارلو بدا منطقيا مواصلة السفر هناك بالمجان. لعله تقديس لاسم الرب ان يواصل "اولاد الجميع" السفر هناك بالمجان بفريضة الحاخام. وجنود الجيش الاسرائيلي يرسلون بجموعهم للبحث عنهم في منازل الفلسطينيين. هكذا هو الحال عندما نعتاد ان نكون اسياد البلاد. الكاتبة ياعيل نئمان كتبت قبل بضع سنوات كتابا عظيم الانتشار رائع عن الصبا في الحركة الكيبوتسية. كان له عنوان رائع: كنا المستقبل. هذا الاسبوع الحزين اعاد لذاكرتي عنوان بقصة دولة فقدت نفسها جنونا في مشروع الاحتلال والاستيطان: كنا السخافة.


