غزة اطلس للدراسات اختفاء آثار المستوطنين الثلاثة في إطار ما تروجه اسرائيل من عملية اختطاف لفتيان؛ أحدث انعطافة كبيرة وتغيير عميق على ظروف وبيئة وأدوات ووسائل الصراع مع دولة الاحتلال، فنقلنا سريعا من الصراع ذي الطبيعة السياسية الديبلوماسية الى حالة الصدام الذي يحمل في طياته مخاطر التدهور الى صدام كبير شامل يؤسس لتشكل بيئة سياسية جديدة.
التوقيت
التوقيت يعتبر أحيانا مركب هام جداً تأخذه الأطراف الجادة بعين الاعتبار، سواء في مبادراتها السياسية او العسكرية، وفي استعراضنا للتوقيت، سنجد ان إعلان اسرائيل عن اختفاء المستوطنين جاء في ظل:
- نجاح فلسطيني داخلي وخارجي كبيرين؛ فالنجاح الداخلي يتمثل بالاتفاق على انهاء الانقسام وتشكيل حكومة التوافق، والنجاح الخارجي يتمثل في نيل الموافقة والمباركة الدولية لحكومة التوافق، وما رافق ذلك من أجواء ايجابية وبيئة دولية مؤاتية، هذا فضلاً عن نجاح الفلسطينيين في حشر حكومة نتنياهو وكشف وجهها الحقيقي، حتى بتنا نتخيل أننا على أبواب موسم قطف الثمار، وكان الموقف الفلسطيني يعبر عن حالة من الارتياح الشديد.
- بوادر لحلحلة أزمات غزه المعروفة، وحالة من التفاؤل.
- إضراب الأسرى الإداريين وصمودهم العظيم؛ واضراب الأسرى كان يمكن أن يشكل رافعة هامة للنضال السياسي الفلسطيني، باعتبار انه اضراب سياسي بامتياز هدفه تسليط الضوء على جريمة الاعتقال الإداري، المدانة دولياً، وإغلاق هذا الملف عبر صراع الأمعاء السلمي.
- تكون قناعات قوية لدي الشارع الفلسطيني ان الافراج عن الأسرى لا يتم الا عبر عمليات التبادل، وذلك بعد التعنت الاسرائيلي وتنصله من الالتزام بالإفراج عن أسرى الـ 48.
- استمرار وتيرة التصعيد الاستيطاني وتهويد القدس.
- من جهة أخرى؛ ظهور أزمة الرواتب وانكشاف هشاشة وضبابية اتفاق الشاطئ واعتماده على النوايا وعلى تفسير التفسير.
- أما على المستوى الإسرائيلي؛ فقد تعمقت الأزمة السياسية لحكومة نتنياهو، وفقدت أدوات ضغطها وقدرة تأثيرها على الحلبة الدولية، لا سيما في ظل تعمق أزمة العلاقة مع ادارة البيت الابيض في اعقاب الترحيب الامريكي بحكومة التوافق، وعلى مستوى ائتلاف نتنياهو بدأت تظهر بعض التصدعات على خلفية الازمة السياسية المتصاعدة.
وبناءً عليه؛ فإننا يمكن أن نجمل ان التوقيت لم يكن مناسباً للفلسطينيين، بل كان مضراً جداً، وشكل فرصة مؤاتية لنتنياهو للخروج من أزمته وتوظيف الحدث بما يخدم أجندته، لذلك ربما سنجد البعض يعتقد ان الحدث برمته هو مجرد فبركة أو إخراج بأدوات إسرائيلية.
المسؤولية
لم يعلن أي فصيل فلسطيني اعلاناً ذي مصداقية بمسؤوليته عن احتجاز المستوطنين، وتحميل المسؤولية والاتهام لحركة حماس صدر عن المستوى السياسي الاسرائيلي منذ ان تم نشر خبر اختفاء آثارهم.
وفي تقديرنا؛ فإن الاحتمال الأكبر هو ان يكون فصيل فلسطيني أو مجموعة فلسطينية ما تقف خلف العملية، دون ان تكون قد حصلت حديثاً على ضوء أخضر من المستوى القيادي.
إن تحميل اسرائيل المسؤولية لحركة حماس لا يستند إلى معلومات أمنية محددة؛ بل الى استنتاجات تحليلية لها علاقة بقراءة أمنية وسياسية، لأنه من الواضح أن اسرائيل لا تمتلك سوى معلومات ظرفية مجتزأة، وهي تعيش حالة من الاحباط والتخبط الأمني، لكن اتهامها لحماس يأتي لخدمة التوظيف السياسي والتصعيد الأمني، وتتمنى أن تنجح في ان تثبت اتهامها للحركة.
إن المصلحة الفلسطينية تكمن في أن لا تكون حركة حماس مسؤولة عن العملية، لأن تداعيات مسؤوليتها ستكون أكبر بكثير، وستشمل الضفة والقطاع، وستمنح اسرائيل مخرجاً سياسياً ومسوغات لأي تصعيد، بينما تحمل المسؤولية من أية جهة أخرى، وسيحد من تداعياتها ويجعل تطويقها أمراً ممكناً.
التوظيف الاسرائيلي الأولي
يمكن الحديث عن نوعين من التوظيف الإسرائيلي؛ توظيف أولي يجرى الآن، وتوظيف تالٍ له علاقة بالمخرجات النهائية للعملية.
يمكن النظر لعملية اختفاء المستوطنين على انها ضربة لمنظومة الأمن الإسرائيلية، وللمستوى السياسي الإسرائيلي، قد تكون محدودة الاضرار في حال تمكنوا من العثور على المستوطنين أحياء أو مقتولين، وقد تكون انتصاراً كبيراً في حال نجاح الآسرين بمبادلتهم بأعداد كبيرة من الأسرى.
على الرغم من هذه الضربة التي لا زالت في بداياتها؛ فإن اسرائيل سارعت لتوظيفها والاستفادة منها، ونظر اليها نتنياهو على أنها، رغم كونها فشل أمني، إلا أنها تنطوي على فرصة ذهبية إذا ما أحسن استخدامها خلال ظرف زمني قياسي لتحقيق عدة أهداف في آن واحد، وفي مقدمتها:
- الطعن في شرعية حكومة التوافق.
- زرع الفتنة والشقاق بين حركتي فتح وحماس.
- إعادة الفلسطينيين إلى المربع الأمني.
- استغلال البيئة السياسية الراهنة لتسويغ أعمال التنكيل والتصعيد الأمني في الضفة والاعتقالات الجماعية ومداهمة المؤسسات، الذي قد يصل الى اجتياحات عميقة ومتكررة لمدن الضفة، علاوة ربما على اتخاذ قرارات غير مسبوقة لا نستبعد منها عملية إبعاد جماعي إلى قطاع غزة، تحت عنوان تطهير الضفة من قيادات "الإرهاب"، بالإضافة إلى التصعيد ضد الأسرى.
- على المستوى الإعلامي؛ تقوم اسرائيل بحملة دولية بهدف الوصول الى إدانات دولية كبيرة، وللتشهير بالفلسطينيين عامة، وبحركة حماس خاصة، كإرهابيين وخطفة أطفال.
- على المستوى الاسرائيلي الداخلي؛ فإن حكومة نتنياهو ومعسكر المستوطنين يوظفها لخنق وارهاب الاصوات المعتدلة، ولخدمة أولوية الامن والاستيطان على الموقف السياسي، بما في ذلك خلق حالة من التعاطف والتعاضد الكبيرين على مستوى الحكومة وعلى المستوى الشعبي.
التوظيف المستقبلي
هذا التوظيف سيرتبط بشكل أساسي بالنتائج النهائية لحملة "اعادة الأبناء"، سواء بإعادتهم أحياء أو أموات أو انتهاء الحملة وحملات لاحقة أخرى دون الوصول الى نتائج، كما انه مرتبط أيضاً بمعرفة الجهة الفلسطينية المسؤولة عن العملية.
ففي حالة الوصول للمستوطنين أموات واثبات مسؤولية حماس؛ فإن ذلك سيشكل رافعة كبيرة لذروة تصعيد اسرائيلي في الضفة والقطاع، في ظل تفهم وصمت دولي، تصعيد عسكري سياسي شامل عميق ومتواصل لفترة من الوقت.
الموقف الفلسطيني
الموقف الرسمي الفلسطيني أصيب بحالة من الصدمة والشلل، ويعيش تحت وطأة الاتهامات الإسرائيلية، يتميز بالاستسلام وعدم القدرة على الدفاع، وربما يرحب بصمت بالحملة الامنية الاسرائيلية ضد قيادات حماس ومؤسساتها، وكان من الأجدر بها تحميل سياسات نتنياهو من الأسرى والاستيطان وافشال المفاوضات المسؤولية، والطعن في جدية اتهام اسرائيل لحركة حماس واظهاره على انه يأتي في سياق التوظيف السياسي.
كما أن الفصائل الفلسطينية أيضاً أصيبت بالشلل، وتعمل تحت وطأة التهديدات والاتهام الإسرائيلي، فغيبت عن أجندتها ملف الأسرى المضربين، ولم تقد الجماهير في الضفة للتصدي للاجتياحات الإسرائيلية، كما أن ثمة خشية من أن تحدث حالة انفلات في إطلاق الصواريخ تسرع وتائر التدهور نحو التصعيد.