خبر : حالات : كأنك لا تعرف المدينة.. كأنك تزورها ...عادل الاسطة

الأحد 15 يونيو 2014 09:39 ص / بتوقيت القدس +2GMT



إلى المطرب: بكر أبو بكر

1 ـ كأنك لا تعرف عمّان.. كأنك تزورها أول مرة:
هل تأتي الرسائل، هكذا، صامتة، ودون إشارة؟ صامتة جاءت الرسالة وبلا إشارة، علماً بأن رنة الإشعار ذات ضجيج. كأنك ستالين لا يثق بأحد، وحتى ابنته هجرته إلى أميركا. يا لجنون الريبة! كنت أخبرت ابنتيك أنك ستغادر السبت قافلاً إلى نابلس، فالأوجاع التي ألمت بك في الفندق جعلت من زيارتك كابوساً.
ـ إن لم تغادر أخبرنا، لأننا سنتناول طعام الغداء معاً. الرسالة جاءت السبت تعلمك أنهم سيمرون على الفندق في الواحدة، ولولا تفقدك هاتفك النقال لجاؤوا وما وجدوا أحداً في الانتظار، لربما قالوا: عاد إلى الضفة! لربما قالوا: لم يرق له اللقاء.
كأنك لا تعرف عمّان.. كأنك تزورها أول مرة. المطعم في جبل عمان، إنه مطعم "سفرة"، وقد كان بيتاً أشبه بفيلا. بيت حجري تحيط به حديقة واسعة جداً، وربما كان من أجمل بيوت عمّان في 50 ق20، وربما حتى 70 ق20.
كان جبل عمّان الحي الأكثر رقياً.. حي السفارات والدبلوماسيين والوزراء. وكنت، أحياناً، تتجول في شوارعه خلسة، الآن غدت البيوتُ القديمةُ تلك مطاعمَ فاخرة، هل مات سكانها أم أنهم انتقلوا إلى الضواحي الجديدة، فقد غدت الضواحي القديمة كما لو أنها بلدة قديمة لا يسر منظرها الناظرين؟ مطعم سفرة يبدو مطعماً أرستقراطياً، ربما كانت حديقته أجمل ما فيه، والبيوت التي لا حدائق لها ليست بيوتاً، أهي زنازين، مخيمات، معسكرات، فنادق أجنحة؟
منذ خمسة وعشرين عاماً وأكثر لم تتناول الطعام مع ابنتيك، هل كان ذلك انقلاباً؟ العادة أن تجلسوا معاً في (فيينا كافي) في الدوار الخامس، في فندق كراون بلازا/ بلازا كراون، وتشربوا العصير أو القهوة أو النسكفيه. تلتقون غرباء وتغادرون غرباء، تغادران بهدوء، وتغادر بصمت، وتنتظرون عاماً عامين حتى يتكرر اللقاء.
كأنك لا تعرف عمّان.. كأنك تزورها أول مرة، بعد ثلاثين عاماً.
2 ـ كأنك لا تعرف جبل الحسين.. كأنك تزوره أول مرة:
تعرف جبل الحسين في عمان منذ العام 1972، وحين تنفق أربع سنوات تدرس البكالوريوس في الجامعة الأردنية، تنفق أكثرها في مخيم الحسين وفي جبل الحسين.
تقطن فيه، وتمر به يومياً، وحين تعود إلى عمان في 1980 تتردد عليه وعلى بعض بيوته، بيوت الأقارب وبيوت رفاق يعطونك دروساً في النظرية ومجلة "الحرية" و.. و.. ويومها بدأ جبل الحسين يتغير، وبدأت آثار قواعد الفدائيين هناك، ما بين جبل الحسين ومخيم الحسين، تختفي.. والمساحة الواسعة التي كانت ما بين الحي والمخيم بدأت تضيق وتضيق حتى لتكاد تتلاشى.
بعد العام 2000 تراها وقد تلاشت تماماً، أين ستنفق مساء السبت في عمان؟ البابا أربك حركة السير وأغلقت طرق بسبب زيارته و.. و.. والأصدقاء تأخروا في المجيء، وتذهبون إلى جبل الحسين، إلى مقهى كاريكاتور.
الليلة سيلعب ريال مدريد وأتلاتيكو مدريد، والناس ترغب في مشاهدة المباراة.
في المقهى الواسع ثبت أربع خمس شاشات، والمقهى مختلط، مقهى في جبل الحسين ومختلط، مثل مقهى جفرا وسط البلد، ثمة اكتظاظ، وثمة مدخنو أرجيلة كثر، وماذا ستفعل حين لا تكون مدخناً؟
ضجيج ضجيج ضجيج، ولا تشاهد المباراة، وتظل تتحدث عن الماضي، مع الأصدقاء القدامى، وعن الأدب والجوائز والطفولة والسفر، ولسوف يندمج الشاعر راشد عيسى، ابن مخيمك، في الحديث، ولسوف يعود إلى طفولته في مخيم العين في نابلس، ومخيم عسكر، ولسوف يقرأ شعراً و.. و.. ولا تسأل عن سبب تسمية المقهى بمقهى الكاريكاتور، هل يمتّ صاحبه بصلة لرسام كاريكاتور مشهور؟ هل هو رسام كاريكاتور؟ والجالسون يتابعون المباراة، وأنت.. وأنت كأنك لا تعرف جبل الحسين.. كأنك تزوره أول مرة.
3 ـ أهو ذكاء التاجر أم أن الأمر التبس عليك؟
منذ سنوات وأنت تتردد على عمّان، تمر، كلما زرتها، على المكتبات والأكشاك وتمعن النظر في الملابس المعروضة في واجهات العرض.
أكثر ما يلفت نظرك جرابات خاصة بمرضى السكري، دائماً تنظر إلى ما كتب أسفل الواجهة، ولا تشتري تلك الجرابات، هذه المرة سوف تتشجع، وسوف تشتري.
تشتري مساء من البائع، فتروق لك الجرابات، وتعود ثانية لتشتري المزيد، هل أخطأت المحل؟ هل دخلت متجراً مجاوراً؟
ستبحث عن جرابات تشبه تلك التي اشتريتها، وسيريك البائع نوعاً آخر، تقول له: أريد من الصنف نفسه، وقد كان معروضاً هنا، يقول لك: بائع المساء غير بائع الصباح، وكل يعرض البضاعة بطريقته، وسيحاول أن يقنعك بأن المحل هو المحل نفسه، وأنت يلتبس الأمر عليك، بائع الأمس كان يافاوياً، وبائع اليوم كان مقدسياً، وأنت.. وأنت لم تكن تاجراً، هل كنت يافاوياً أم مقدسياً أم نابلسياً؟
4 ـ مغني الرصيف : بكر أبو بكر وآمنت بالله
تغادر مطعم القدس، وتدلف إلى محل بيع جرابات السكري، وهي من إنتاج حلب السورية، وتسير باتجاه سوق الذهب، لتساعر فقط، فقد آثرت أن تعطي ابنتك النقود لتشتري هي ما يروق لها، هي التي خذلتك غير مرة، في حين أنك لم تخذلها أية مرة.
"آمنت بالله، نور جمالك آية، آية من الله" يغني رجل سبعيني، ويعزف على العود، وثمة الحلاق وزبون وشخص ثالث تغدو رابعهم، ولا كلب في شوارع وسط العاصمة ليغدو خامسكم.
الصالون صالون شقير للحلاقة"، هل نحن من أهل الكهف؟" "وإلاّ لماذا نطرب لآمنت بالله وأغاني عبد الوهاب القديمة؟". أغان قديمة ربما غناها عبد الوهاب قبل خمسة ستة سبعة عقود وأكثر.
"آمنت بالله، نور جمالك آية، آية من الله" و"ليه يا بنفسج" وعندما تطلب منه أن يغني "جايين الدنيا ما نعرف ليه" يغني عندما يأتي المساء.
تدون ملاحظات وتسأل المغني طالباً منه أن يفصح عن هُويّته وأن يعرفك باسمه. المغني يجيب: أنا من النور. وسترد عليه: لا، إما أنك من يافا أو أنك من القدس، "لا تقل أصلي وفصلي" يقول، وتكمل أنت: إنما أصل الفتى ما قد حصل.
وسيتحدث المغني قليلاً، سيقول: حين يعيش المرء في ست مدن يغدو من النور، ولا مدينة ينتمي إليها، لم يعدد الرجل أسماء المدن التي أقام فيها، ولم يحسب نفسه على مدينة. وسيطلب منك أحد الحاضرين، وبدأ المستمعون يتكاثرون، رجالاً ونساء، سيطلب منك أن تفصح أنت عن نفسك وتعرف بحضرتك.
"أنا عادل الأسطة من نابلس وأدرّس في جامعة النجاح الوطنية وأكتب كل أحد مقالاً في جريدة الأيام الفلسطينية، وسوف أكتب عن هذه الظاهرة بعد أسبوعين ثلاثة". "وأنا بكر أبو بكر".
سيرحب بك وسيسألك عن الشاعر غسان زقطان، وسيرحب بجريدة الأيام ويبدو أنه يتابعها.
أبو علاء من الفالوجة وفي بيت جده حوصر الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وسيعلمك أن والده شاعر وأنه يعرف خليل زقطان، وسيقرأ مقطعاً شعرياً من أشعار والده خليل، وهو شاعر تسمع به لأول مرة، ها أنت تتعلم من الشوارع.
بكر أبو بكر من الفالوجة، وحين يعرف أنك من فلسطين، وكنت طلبت منه أن يغني لسيد درويش، يرحب ثانية بك وبالحضور، وسيغني لسيد مكاوي من كلمات فؤاد حداد: ولا في قلبي ولا عينيّ إلاّ فلسطين/ أنا العطشان ما ليش ميّه إلاّ فلسطين/ وسلاح الثورة يتدرب على الثورة لا بد يثور. و.. و.. وتواصل الصعلكة في شوارع عمّان.

عادل الأسطة