إنه الشخص الذي قاد عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية الى القرار التاريخي في تشرين الثاني 1988 على الاعتراف باسرائيل على أساس قرار الامم المتحدة 242 الذي يشمل اعترافا بدولة اسرائيل وبحقها في العيش في سلام في حدود آمنة معترف بها. وهو الشخص الذي قاد م.ت.ف الى التوقيع على اتفاق اوسلو الذي يشمل – ببواعث السياسة الواقعية – تنازلا فلسطينيا داخليا عن 78 بالمئة من مساحة ارض اسرائيل/ فلسطين حتى قبل التسوية الدائمة. وهو الشخص الذي قاد الى الرسالة التي نقلت من ياسر عرفات الى اسحق رابين التي جاء فيها أن م.ت.ف تعترف بحق اسرائيل في الوجود في سلام وأمن. وهو الشخص الذي يكرر طلبه أن يكون الاتفاق بين اسرائيل وفلسطين نهاية للصراع وأن يفضي الى انهاء المطالب. وهو الشخص الذي يخط الطريق للتخلي بالفعل عن حق العودة بقوله للقناة الثانية إنه يدرك أنه لن يعود هو نفسه الى بيته في صفد.
وبرغم ذلك اصبح يوجد توجه جديد في الفترة الاخيرة تنضم اليه اطراف مختلفة من الطيف السياسي وقد اصبح اسم اللعبة أبو مازن فوبيا. فأحد الوزراء يسمه بسمة ارهاب سياسي ويسمه وزير آخر بسمة أكبر معادي السامية، وينضم اليهم صحفيون وكُتاب أعمدة صحفية متهمين إياه بأن كل ما يهمه هو أن يحصل من اسرائيل على تنازلات أكثر وأن تُكتب ويرفض التوقيع عليها. إن شيئا ما في هذا الشخص النزيه وهو واحد من أكثر الزعماء استقامة في العالم – وهو الضد المطلق لعرفات الذي كان يتكلم بلغة مزدوجة ومثلثة – يصيب هؤلاء الاشخاص بالجنون.
أنا أعرف أبو مازن من لقاءات كثيرة أجريناها في العشرين سنة الاخيرة، وأنا أتابع سلوكه منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي. والذي يفحص في موضوعية عن اقواله – المعلنة والتي قيلت في الغرف المغلقة – وعن نشاطه يخلص الى استنتاج أنه لا يوجد زعيم عربي اكثر اهتماما منه بالتوصل الى سلام مع اسرائيل مع أخذ في الحسبان لحاجاتها ومصالحها الحقيقية.
حان الوقت للتدقيق في الامور. إن 36 لقاءً بين اهود اولمرت وأبو مازن جعلت هذين الاثنين قريبين جدا من اتفاق على المواضيع الجوهرية ومنها القدس واللاجئون وحدود الدولة والامن. وكانت المحادثات شفهية تتم بينهما وحدهما فقط على نحو عام، ونشأ بين الاثنين قدر كبير من الثقة والتقدير المتبادل. ولم يوجد حوار جدي وعميق ومهني كهذا بين أي رئيس حكومة وزعيم فلسطيني. وهما نفسهما على يقين من أنه لو ملكا وقتا أكبر – حتى اشهرا معدودة – لتوصلا الى اتفاق مباديء موقع عليه مصحوبا بخريطة الحدود الثابتة النهائية بين دولتين لشعبين – اسرائيل وفلسطين.
لم يكن وقف المحادثات لأن أبو مازن لم يوقع على وثيقة ما لأنه لم توجد وثيقة كهذه. وقد استقر رأي الاثنين في لقاءاتهما الاخيرة على أن يبدآ عمل الصياغة لكنهما لم يفعلا ذلك. والسبب الوحيد لوقف المحادثات كان اعلان اولمرت استقالته بعقب قرار تقديم لائحة اتهام فيه. ومنذ تلك اللحظة وفي الاشهر التي بقيت من ولاية اولمرت، تمت حملة ضغوط على أبو مازن للكف عن التفاوض. فقد وجد من جهة من قالوا له إن اولمرت لم يعد مفاوضا شرعيا وليست له سلطة أو قدرة على أن يجيز اتفاقا في الحكومة والكنيست، ووجد من جهة اخرى مبعوثون قالوا له إن تسيبي لفني توشك ان تنشيء حكومة بعد مغادرة اولمرت فورا ولهذا يفضل إتمام الصفقة معها.
وحاول اولمرت أن يقنع أبو مازن بالاستمرار على التفاوض لكن أبو مازن فضل انتظار لفني. وحاول اولمرت في اطار حملة الاقناع في "وقت الاصابة" الذي بقي له بعد، وفي اللحظة الاخيرة أن يجعل أبو مازن يوقع على الخريطة التي اشتملت على ضم اسرائيلي لارض وعلى تبادل اراض لكن جواب أبو مازن بقي كما كان فقد أراد اتفاقا. وكان يؤمن بأنه يمكن التوصل الى اتفاق مع اولمرت لكن قواعد اللعب حطمت ولم يبق في رأيه سوى انتظار زعيم أو زعيمة اسرائيل التالي/ التالية.
أنا أعرف جيدا الوثيقة المسماة بيلين – أبو مازن التي يحاولون بها الآن أن يعيبوا على الرئيس الفلسطيني، لأنني كنت مفاوضا مدة نحو من سنة ونصف لممثلي أبو مازن في 1994 – 1995. وكان التصور في تلك المحادثات يشبه ذاك الذي وجه التفاوض بين اولمرت وأبو مازن: وهو صوغ وثيقة مباديء مصحوبة بخرائط ضم ارض وتبادل اراض، وأنهينا صوغ الوثيقة قبل قتل رابين بخمسة ايام؛ ولا أُخرج من نطاق الامكان أنه لولا أنه قُتل، ولو أن هذه الوثيقة التي وافق عليها أبو مازن أصبحت برنامجا للمحادثات في التسوية الدائمة فلربما كان الواقع يختلف الآن تمام الاختلاف.
أتذكر جيدا اللقاء الاخير مع أبو مازن في تل ابيب. إن استنتاجي قاطع لا لبس فيه وهو أن أبو مازن وافق على الوثيقة وإن كان ينبغي أن نؤكد أن الوثيقة كانت تشتمل على عدة عناصر لم يكن متفقا عليها تماما؛ وكان الهدف أن تكون الوثيقة مسودة متقدمة لاستمرار التفاوض الرسمي بين الطرفين. ولم يكن يُقصد ألبتة أن تُسرب الوثيقة وحينما بلغ مضمونها الى وسائل الاعلام كان واضحا أن أبو مازن لا يمكن أن يلائم نفسه وإياها. هذا الى أننا لم نطلب ولم يطلب يوسي بيلين أن يوقع أبو مازن على تلك الوثيقة.
الاستنتاج بسيط وهو أن صيغة سلام أبو مازن كانت وما زالت واضحة وهي انهاء الصراع واتفاق دائم يفضي الى سلام وتطبيع علاقات بين اسرائيل وكل الدول العربية وكل الدول الاسلامية ايضا كما يبدو وهو مشروط بموافقة اسرائيل على الامور التالية: انشاء دولة فلسطينية على اساس حدود 1967 مع تعديلات حدودية مضيقة وتبادل اراض بنسبة 1: 1؛ وعاصمتين في القدس؛ وسيادة فلسطينية حقيقية دون قوات عسكرية اسرائيلية في المناطق ومع كون فلسطين منزوعة السلاح، وصيغة محكمة متفق عليها بشأن اللاجئين. ولا تشمل هذه الصيغة حق العودة لكن يكون فيها تعويضات من جهة وقدر كاف من الرمزية يُمكن الفلسطينيين من ابتلاع حبة الدواء المرة.
وحاول أبو مازن أن يقود اهود اولمرت في كامب ديفيد الى هناك في تموز 2000. لكن حينما عرضت أمان على باراك تقديرا مشابها قال إن الفلسطينيين سيقبلون صفقة 97 بالمئة وتبادل اراض بنسبة 1: 1، قال باراك لرئيس أمان: ألا يأخذون اذا عرضت 90 بالمئة؟ أنا لا أقبل تقديرك. وبعد ذلك قال رئيس أمان إن باراك اعتقد أنه لا يحتاج الى تقدير استخباري لأنه رأى نفسه خبيرا بالاستخبارات واعتقد أنه أكثر ذكاءً. وكان من المريح له بعد ذلك أن يفسر فشله بوصف محرف للواقع.
أراد أبو مازن ويريد التوقيع على اتفاق مع اسرائيل وهو لم يكن قط يشتهي الحكم، وهو يبغض كل شيء يقترن بذلك. والسبب الرئيس الذي يجعله موجودا في منصبه ارادته أن ينهي الاحتلال وانشاء دولة فلسطينية في حدود 1967 وسلام مع اسرائيل يراه لبنة استراتيجية في المستقبل الفلسطيني. لكننا سنبقى نتهمه بمختلف التهم التي ليس لها اساس في الواقع الى أن يأتي رئيس وزراء اسرائيلي شجاع مثل اولمرت ويعرض عليه صفقة عادلة غير مُذلة لا من موقع قوة واستكبار كما يجري في هذه الايام.


