عودة اسرائيل لسياسة الاغتيالات، وما رافقها من تصعيد منفلت وغير مسبوق في حدة التهديدات الاسرائيلية من أعلى المستويات في دولة الاحتلال، وما حملته من توعد القطاع بعدوان شرس على لسان نتنياهو ويعلون وآخرين؛ كل ذلك جعل احتمالية العدوان كبيرة جداً لدى المراقبين والمحللين، وحتى لدى الكثير من القوى والأحزاب، وهو ربما الذي شكل أحد أسباب ضبط النفس وعدم الرد على جريمة الاغتيال بما يتناسب مع الجريمة من جهة ومع الخرق الكبير لأحد أهم انجازات تهدئة 2012 (وقف الاغتيالات)، الأمر الذي يعتبر تجاوزاً خطيراً، وعادت الفصائل لتؤكد التزامها بالتهدئة رغم الاختراقات الإسرائيلية ورغم تشديد الحصار.
ولاحظنا أثناء قراءتنا لمجموعة كبيرة من الكتاب والمحللين أن ثمة شبه إجماع على أن اسرائيل قد حسمت قرارها لصالح الحرب على غزة، أو أن لديها نية مبيتة للعدوان، وأن التصعيد الاسرائيلي الكبير (جرائم الاغتيال) يهدف إلى استفزاز المقاومة واستدراجها للرد لتسويغ وتبرير الحرب داخلياً أولاً، وخارجياً ثانياً، ومنهم من ربط أسباب الحرب بإزالة التهديد الذي باتت تشكله المقاومة، او استغلال الحالة الاقليمية وحالة العداء غير الخفي الذي تعلنه مصر تجاه حكومة غزة، أو التشويش على المصالحة أو ابطالها، ومنهم من ذهب بعيداً وربطها بطبخة كيري السياسية، ومنهم من قال أن الانقسام لم يعد يخدم مصلحة اسرائيل... الخ من محاولات البحث دوافع العدو لعدوانه المقبل.
اسرائيل تتمسك بالتهدئة
الأسباب والدوافع التي فرضت على إسرائيل قبول تهدئة نوفمبر 2012 رغم قصف تل أبيب والقدس المحتلة، ورغم إدراكها أنها لم تستطع أن تلحق ضرراً كبيراً بالمقاومة وإمكانياتها الصاروخية وبنيتها التحتية؛ لا زالت موجودة وقائمة ولم يجر عليها أي تغيير جدي سوى ما يتعلق بالدور المصري، وهو متغير ليس له أهمية كبيرة بالمقارنة مع بقية المتغيرات الأخرى، ونذكر منها:
على المستوى السياسي: لا يريد أحد في اسرائيل العودة لاحتلال غزة والسيطرة عليها، حتى لو كان هذا الأمر ممكناً، بل العكس تماماً فهم يريدون الانفصال عن غزة انفصالاً تاماً ومطلقاً، كما ان الانقسام لا زال وسيظل يخدم كل حكومة اسرائيلية لا تعترف بالحقوق الفلسطينية وغير جاهزة لاستحقاقات السلام الذي يلبي الحد الادنى لطموحات الشعب الفلسطيني، علاوة على استحالة إسقاط حكومة حماس بالقوة، حتى على فرض أنها استطاعت احتلال غزه وقبلت بدفع التكلفة العالية المرتبطة بذلك لأسباب تتعلق بأن لحماس جمهورها الكبير، وهى برغم كل ما عليها ليست حكماً استبدادياً فاسداً، وهى ليست أقلية طائفية تستبد بالأغلبية الطائفية، كما أن الفلسطينيين يتوحدون غريزياً ضد العدو الصهيوني، ولن تقبل أي جهة استلام الحكم في غزة بحماية الاحتلال، أما على مستوى مباحثات ما يسمى بمسيرة التسوية؛ فآفاقها مسدودة بفعل لاءات الاجماع الصهيوني، وبفعل استمرار الاستيطان، وكل مناورات كيري وخططه الهادفة للالتفاف والتملص من مواجهة الفشل وإطالة عمر التفاوض ليست كافية لخلق وهم يشكل دافع سياسي لأي عدوان عسكري.
أما على المستوى الأمني: والأمن وحده وما تشكله صواريخ المقاومة من إزعاج أو تهديد لأمن المستوطنين اعتبر السبب الوحيد والحقيقي خلف كل الحروب السابقة، إلا أن إسرائيل أدركت، بل ونقول قد كوي وعيها، بأنها مضطرة للتسليم بإمكانيات المقاومة والتعايش معها باعتبارها باتت أمراً واقعاً، وهي أشبه بما توصلت إليه مع مقاومة حزب الله في جنوب لبنان، أي التسليم مع ردع المقاومة عن استخدام ما لديها، لكن الفرق بين جنوب غزة ولبنان أن في جنوب لبنان حزب المقاومة هو حزب السلطة في الجنوب، بينما في غزة فإن حزب السلطة لا يحتكر وحده القدرات الصاروخية، الأمر الذي تخشى معه اسرائيل تآكل سيطرة حزب السلطة في فرض قراراته وفرض سيطرته الأمنية والسياسية على بعض فصائل المقاومة، مما يجعل اسرائيل تعتقد أنها بحاجة دوماً للتهديد وتعزيز وتصعيد منظومتها الردعية والارهابية (تصريحاً وعدواناً وضغوطاً مصرية واقليمية) لإرهاب حكومة غزة والضغط عليها لفرض المزيد من سيطرتها على بقية الفصائل.
إسرائيل تدرك أن لا حل لصواريخ المقاومة سوى سياسة الردع، وأنها لا تملك سوى بعض أشكال المغامرات العسكرية لفرض مزيد من الردع أو الحاق ضرر كبير بالبنية الصاروخية، لكنها تدرك أن لهذا الهدف المتواضع اسرائيلياً كلفة كبيرة على كل المستويات لا تستطيع أن تتحملها حكومة نتنياهو، ويخشى نتنياهو أن يكون مستقبله السياسي أحد ضحاياها كما يخشى جنرالاته أن تلصق بهم تهمة جرائم الحرب ستعيق تقدمهم مستقبلاً في هرم الحياة السياسية والتجارية والمدنية، في ظل ما يظهره العالم من امتعاض وعدم ارتياح وقبول للسياسات الإسرائيلية.
نتنياهو وجنرالاته لم يبق أمامهم سوى تصعيد التهديد المقرون بالفعل العدواني لإثارة الرعب وإرهاب المقاومة وردعها، يخافون من عواقب الحرب فيلوحون بها، يخشون أن تفرض عليهم حرباً اضطرارية فيهددون بالحرب لتلافيها.
الحرب الاضطرارية والاختيارية
الحرب الاختيارية هي الحرب التي يخطط لها العدو ويحدد أهدافها وينتظر الظرف المناسب أو الذريعة أو يخلق هو ظروفها ويصنع ذريعتها، وأبرز مثال على هذه الحرب الاختيارية حرب 67، وحرب 82، وحرب 2006 على لبنان، بينما الحروب الاضطرارية هي تلك الحروب التي يشعر بها العدو أنه مضطر لشنها لأسباب أمنية أو داخلية، أي أنه يكون مضطر للقيام بها ويفضل الامتناع عنها.
وفي العلاقة الأمنية بين غزة واسرائيل في الوقت الراهن؛ فإنه لن تبادر بحرب اختيارية ضد القطاع، حيث لا توجد أهداف لإسرائيل يمكن أن تحققها من مثل هذه الحرب، لا سياسية ولا أمنية، كما لا يوجد اجماع اسرائيلي مجتمعي يؤيد الخروج للحرب، علاوة على عدم وجود ضوء أخضر أمريكي أو تأييد دولي لعدوان قد يعيد إنتاج ما هو أكثر من غولدستون، لكن هذا لا يعنى أن شبح الحرب غير موجود أو أن احتمالياتها صفر، فحكومة نتنياهو التي تخشى نتائج الحرب تخشى أكثر ضغوط الشارع الاسرائيلي في حال استمرار إطلاق الصواريخ، وهى حكومة اليمين المتشدد تخشى على صورتها وصورة زعيمها في الاعلام وفي أوساط المجتمع الاسرائيلي كزعيم متردد وجبان، كما أن وزير الحرب يعلون الذي يطمح في وراثة نتنياهو في زعامة "الليكود" لن يسمح أن يظهر بمظهر من يخاف مواجهة حماس، الأمر الذي سيدفعهم مضطرين بفعل العوامل السياسية الداخلية للقيام بعدوان عسكري قاسي محدود في حال تآكل ما يسمونه بالردع وفشل التهديد والارهاب