خبر : جون كينيدي الرجل الذي حاول أن يصنع الفارق ...بقلم : حسين حجازي

السبت 30 نوفمبر 2013 05:13 م / بتوقيت القدس +2GMT



على كثرة مشاغلنا وهمومنا، فإنني أحب أن أكتب سطراً بجوار إراحة روحه، في الذكرى الخمسين لرحيله في الثاني والعشرين من تشرين الثاني. فقد كنت في سن الثامنة من عمري حينما قتل جون كينيدي، ولا زلت أذكر الى الآن المشهد الذي ارتسم في الذاكرة عند سماعي للخبر، كصورة التقطتها الكاميرا وظلت مثبتة هناك منذ ذلك الحين كتوقف الزمن، وربما اليوم ليس سوى هذه الرغبة في إعادة بث الروح والحياة في هذه الصورة، هو ما يدفعني الى هذه الكتابة عنها وعن الحدث الذي هزني صغيراً، ودونما سبب واضح في حينه أعيه، كنوع من محاولة تفسير حلم غامض تظل صوره تتردد عند الصباح، وذاكم كان مشهداً أقرب الى حلم. وقد حان الوقت بعد خمسين عاماً على ذلك الصباح لاستعادة ملامحه الغائرة في عتمة الزمان.

هل كنا نسير بجوار السراي وكانت الصحيفة الوحيدة التي تصدر في المدينة تعنون صدر صفحتها الأولى بالبنط الأحمر العريض "مات كينيدي"، لا فقد جاء احدهم بالصحيفة صباحاً ونحن كنا هناك في مستشفى العيون " الرمد " القديم، الذي كان يبنيه أبي، وكانت الصحيفة هناك ثم صاح أحدهم: لقد قتل كينيدي، وتجمع بعض من كانوا من العمال وكان مراقب الأشغال جالساً على كرسيه بجثته الممتلئة عند المدخل، وقد بدت الصدمة وعلائم الوجوم على وجوه الجميع، حتى لكأني أراني في الصورة منذ ذلك الوقت كأنني واقف او متجمد للحظة بلا اي حراك. ترانا اليوم لماذا صدمنا نحن الذين كنا هناك على هامش المدينة العالمية، واشنطن ونيويورك او لندن وباريس بمقتل جون كينيدي؟ ولماذا أحببناه ذاك اليانكي الجميل نحن الفلسطينيين المقهورين حتى ونحن بالكاد الى هذا اليوم نجد لهذا الحب تفسيراً ؟
لعلها كانت في ادراك وخيال طفل في الثامنة اول صدمة هكذا في الوعي المبكر، ان رئيساً محبوباً ويحكم دولة كبيرة يمكن ان يقتل، وقع هذه الكلمة الغريبة والغامضة لأول مرة على الأذن "الاغتيال السياسي" في زمن لم يكن فيه القتل بات مألوفاً العام 1963، حيث بدا العالم الذي انهكته حرب عالمية ثانية كبرى، وكأنه ينعم بحقبة نادرة من الازدهار والسلام، كتلك الحقبة من تاريخ العالم في عهد الأنطونيين زمن الامبراطورية الرومانية، وحيث سأعرف لاحقا حينما ستغدو السياسة خبزنا اليومي، ان ذلك السلام والهدوء الذي نعم فيه عقد الستينيات، انما كان مرده الى هذا الرئيس المغدور، وانه قتل بسبب هذه الممانعة، هذا الرفض الحري بالاحترام والتقدير من لدن العالم اجمعه اليوم في ذكراه، بأن الجنس البشري نجا من الدمار المحقق لأنه قاوم وحيدا وبشجاعة ضغوط كل المحيطين به من ذوي الرؤوس الحامية.
ولعله اليوم في الوعي الطفولي لذاك العصر انما كان بوسامته وأناقته وشبابه وحيويته في الثالثة والأربعين، هو التجسيد الرمزي لعصر كان ظلاً وصدى تهيمن عليه روح الزعامة والقيادة، كما سحر هذه الكلمة الغامضة " الكاريزما "، جمال عبد الناصر وتيتو ونهرو وفيديل كاسترو والثائر الأممي أرنستو تشي جيفارا الى جانب ماوتسي تونغ العظيم في الصين وشارل ديغول في فرنسا وسوكارنو الافريقي والأسقف مكاريوس في قبرص وشيخ الأزهر محمود شلتوت. وعظمة الفن الذي كانت تمثله اوج هذا العصر سينما هوليود بنجومها الخالدين، كما هوليود المشرقية في مصر والهند والسينما الإيطالية في اوروبا، وتلك الكوكبة النادر التقاؤها في اي عصر من نجوم الفن والغناء.
هل كان بصورته الساحرة ذاك الرئيس الذي لم تأخذه حتى أزمة الصواريخ السوفيتية في خليج الخنازير في كوبا، والتي أوقفت العالم على قدم واحدة عن ان يخرج من غرفة الاجتماعات في ادارة الازمة كل خمس دقائق ليرد بالهاتف كعاشق ولهان على مكالمات مارلين مونرو، والتي كانت صورتها الشهيرة هناك بالأبيض والأسود مع كريم الشفاه الذي يغدو في الصورة اسود والصدر المفعم بالشهوة والإغراء معلقة كأيقونة في صالة السينما الجميلة التي ما عاد لها اليوم وجود، الى جانب الصور الكبيرة الأخرى لنجوم هوليود.
أتخيله اليوم كجزء اشمل من المشهد، وان موته، قتله، مضرجا بالدم في ذروة تألقه وألق هذا العصر، إنما هو التفسير الوحيد لمشهد الحلم المثبت في الصورة، وكأنما كان ثمة إدراك غامض في وعي الطفل، ان هذا الحدث القتل كان إيذانا او مقدمة لقتل العصر نهاية الزمن الجميل.
كانت صورته العصر على صورة أميركا الضاحكة ضحكته الساحرة، والتي فشلت الدعاية الأميركية طوال عقد الخمسينات في تحقيقها هنا في الشرق الأوسط، عبر الأشرطة السينيمائية الموجهة والبوسترات والصحف مدفوعة الأجر والتمويل، فيما كانت الشيوعية هي التي تستحوذ على الإعجاب، فقد كان على النقيض من سلفه الجمهوري الجنرال ايزنهاور الذي لم يتردد بإشعال الحرب الكورية، وإرسال طائرات الجيش للتحليق فوق الاتحاد السوفياتي، وإنزال المارينز على شاطئ بيروت، وعقد الأحلاف الإقليمية لتطويق الاتحاد السوفياتي بالستار الحديدي، ومحاصرة القومية العربية الصاعدة، وإطلاق يد الـ CIA لتدبير الانقلابات والاغتيالات حول العالم، فسعى بدلا من كل ذلك حيث لم يكن مزاجه مزاج رجل حرب الى مد يده للحوار مع خصومه وأعدائه، وتبادل الرسائل مع جمال عبد الناصر لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، وكان يزمع التفكير بإخضاع المفاعل النووي الإسرائيلي للتفتيش، وفي اليوم الذي قتل فيه كان يبعث برسالة سرية عبر وسيط الى كاسترو، ولم يتردد بمقابلة خرتشوف لمنع خطر وقوع حرب نووية عن طريق الخطأ، وحين صرخ خرتشوف منفعلا في وجهه ملوحا بالحرب وضع يده في جيب سترته، وقال بهدوء لمحدثه : "لتكن اذن حربا باردة" ثم التفت الى احد مساعديه وهمس بابتسامة أهكذا هو دائما؟.
وغالبا ما يوجد الرجال العظام دوما عند لحظة فارقة في التاريخ والحياة، عند المفترقات الكبرى وذلك كنوع من حكمة التاريخ لكي يكون بإمكان رجل واحد ان يصنع الفارق. وهكذا حينما علت صيحات الحرب في غرفة الاجتماعات في ذروة الأزمة الكوبية، وابلغوه انهم جهزوا ألفا ومئتي طائرة مزودة بالقنابل النووية، وصاح رئيس أركان قواته أمامه "سأطبق السماء والأرض عليهم" انتفض بحدة وقال: لا، ثم تابع موبخا "أو تدعون بعد ذلك أننا ننتمي الى الجنس البشري ؟".
وهنا اتُخذ القرار بالتخلص منه وقتله، إزاحته من الطريق. فقد كان رجلا اقرب في مزاجه الى قوة أميركا الناعمة وعالم الستينيات، التي كانت تجد رمزيتها في سيارة الشفرليت الأميركية الفارهة، ونجمات هوليود الفاتنات الأكثر شبها في ذلك الوقت بعلب المياه الغازية، بتصميمها البديع كوكا كولا وأخواتها البيبسي والسفن أب. وحيث تلك الكلمة الغامضة ولكن الساحرة توحد عصرا بأكمله، في هذه الرفعة الأنيقة من الذوق الرفيع. وحيث ذاك كان زمن الزعماء الكاريزميين كما النجوم.
وبعد الرأسمالي غير البشع سيأتي الرأسماليون واليانكي البشع، بعد كينيدي جاء جونسون الذي سيضع خطة "صيد الديك الرومي" في حرب 1967، والديك الرومي المقصود هو جمال عبد الناصر، فهل عرفنا لماذا قتل كينيدي؟ ولماذا حزنا على كل هذه الخمسين عاما من الشقاء؟ لأنه حاول صنع الفارق ولم يكن ثمة من تروق لهم هذه المحاولة، فدفع الرجل والعالم ثمن هذه المحاولة.