هموم كثيرة، وأزمات متفاقمة يئن تحت وطأتها سكان قطاع غزة، فيما لا تكف القوى السياسية عن مطالبة الناس بالصمود، وبالاستعداد للتصدي لاعتداءات إسرائيلية لا تتوقف، ولا يتوقف التهديد بحروب إسرائيلية اين منها الحروب السابقة. الحصار مشدد، ويضيق الخناق اكثر فأكثر على الناس، من أزمة انقطاع التيار الكهربائي لاثنتي عشرة ساعة متواصلة، يعود بعد ذلك لست ساعات، الى ازمة توقف المشاريع الإنشائية، بسبب عدم وجود الحديد والإسمنت والحصمة، ما يؤدي الى توقف العمل في عشرات المهن المرتبطة بذلك، فالبطالة التي تحصد كل عام، آلاف الخريجين، والفقر المتزايد بسبب تراجع خدمات الوكالة، وتراجع الدعم لمنظمات المجتمع المدني، وشح المساعدات الى القيود المستمرة على الحريات العامة والخاصة.
أي بؤس أسوأ من هذا البؤس الذي يعانيه سكان القطاع، بدون أدنى أمل في إمكانية تبدل واقع الحال، لكنهم لم يفقدوا البوصلة الوطنية، ولم يفقدوا الأمل بإمكانية تحقيق المصالحة واستعادة الوحدة الوطنية، باعتبارها بداية الطريق، ولا شيء غيرها، تضيء الطريق الى مستقبل افضل.
حراك واسع، ودؤوب نحو البحث عن مخارج عملية للاستعصاء الذي يحول دون تحريك عجلة المصالحة، والبدء بتنفيذ اتفاق المصالح الذي تم توقيعه في الرابع من شهر مايو ٢٠١١، واتفاق الدوحة.
الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية بدأ حملة من اجل تحقيق المصالحة، لا تتوقف على المؤتمرات، وورشات العمل، والتثقيف والتحريض، بهدف استنهاض الهمم. النخب ومنظمات المجتمع المدني هي الأخرى، تواصل، إلى جانب الأحزاب السياسية الاتصالات واللقاءات والحوارات، وتقديم المبادرات.
حركة حماس تبدي اهتماما واضحا، لكن المرة الوحيدة التي نشعر فيها ان ثمة مسؤولا يرغب في الاستماع، والاستفادة من الاقتراحات والمبادرات كانت خلال اللقاء الحصري المغلق الذي تم يوم امس في فندق الكومودور وحضره الأخ إسماعيل هنية، وعدد من قادة الرأي العام، من مثقفين وممثلي مجتمع مدني، وإعلاميين وأكاديميين ومفكرين. هنية قدم رؤية حماس للتطورات الجارية على المستويين الدولي والعربي، وعلى المستوى الفلسطيني، مدعماً باقتراحات عملية، قابلة للتطوير والتعديل في ضوء ما يثار من قبل الحاضرين.
الكلام حول المصالحة كثير، متكرر، ولا يكف المسؤولون عن تأكيد التزامهم بالمصالحة وعن أهميتها، وعن مخاطر استمرار الانقسام، والتي تخدم الاحتلال ولكن الأمر يحتاج الى مبادرات عملية، هي ضرورية وممكنة، حتى لو تأخرت المصالحة وفق الاتفاقيات الموقعة لأسباب بات يعرفها الجميع.
مسألة تحقيق المصالحة مرتبطة الى حد كبير بالمفاوضات السياسية الجارية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبسبب الفيتو الأميركي الإسرائيلي الذي لا يمكن التقليل من أهميته وتأثيره، ومرتبطة ايضا بتوفر الإرادة السياسية، لدى الفصائل والقيادات السياسية، معلوم ان المفاوضات ستنتهي بعد نحو خمسة اشهر، الى فشل ذريع تقود اليه المخططات والسياسات الإسرائيلية، وهذا أمر بات معروفا للقاصي والداني، النهاية المتوقعة من المفاوضات ستنقل، الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي الى مربع الاشتباك وهو المربع الذي يوفر البيئة المناسبة، والإطار المناسب، لتحقيق المصالحة، ان الإنجازات التي حققها الفلسطينيون لم تأت من خارج إطار الصراع والاشتباك مع إسرائيل ومخططاتها، ولم تتحقق ايضا بدون أثمان، كما انها لم تتحقق الا عبر الوحدة الوطنية.
في هذا الإطار وبالرغم من تشديد حركتي حماس وفتح على أهمية الرعاية المصرية، التي لا يرون ولا يريدون بديلا عنها، لا يمكن ان يعفي الطرفين من مسؤوليتهما عن أولوية تطوير إرادة فلسطينية راسخة وحاسمة، ذلك ان الدور المصري لا يمكن ان يكون بديلا وانما مساعدا قويا لما يتفق عليه الفلسطينيون.
ولكن اذا كانت المصالحة مؤجلة لبعض الوقت فإن السؤال هو هل ينبغي الانتظار أم أن هناك ما يمكن وينبغي القيام به، بما يهيئ المناخات السليمة والطبيعية عندما يحين موعد تحقيق المصالحة.
الجواب نعم، فالفلسطينيون بحاجة ماسة الى حوار وطني جماعي لبحث المستجدات، والأحداث المتسارعة، الجارية على الصعيدين الدولي والعربي، وما يرافق هذه المستجدات والأحداث من متغيرات كبرى تنعكس على القضية الفلسطينية مما يحتاج من الفلسطينيين ان يستفيدوا من الإيجابيات، وان يخففوا قدر المستطاع من السلبيات، لا ارغب الخوض في تحليل هذه المستجدات ولكن اتساءل هل لا يزال العالم محكوما للنظام العالمي الذي تتسيد عليه الولايات المتحدة ام ان العالم أمام مرحلة جديدة؟ هل ثمة أهمية للاتفاق الإيراني مع الدول الست الكبرى، وما هي انعكاسات ذلك على الإقليم والقضية الفلسطينية؟
هل ثمة اثر وأهمية للتوافق الدولي الذي وقع بشأن الملف السوري بما في ذلك ملف الأسلحة الكيماوية، وأية انعكاسات لذلك على توازنات القوى وبالتالي على القضية الفلسطينية؟
الا يشكل التغيير الذي وقع في مصر كبرى الدول العربية، عاملا مهما ينطوي على تأثيرات غاية في الأهمية على الإقليم، وعلى القضية الفلسطينية؟ وأخيرا ما هي التداعيات التي يمكن ان تقع جراء فشل المفاوضات واستمرار المخططات الإسرائيلية؟
يحتاج الفلسطينيون اذاً الى حوار استراتيجي معمق، وجماعي يستهدف وضع رؤى واستراتيجيات وبرامج جديدة ويقرر خيارات جديدة بما يتناسب والمصلحة الوطنية، في ضوء هذه المتغيرات والتداعيات.
هذه مهمة غير مرتبطة بالضرورة بالبدء بتنفيذ المصالحة، بل من المفيد ان تسبقها وان تستبق الفصائل الفلسطينية خطوة المصالحة بجملة من التوافقات التي تخلق مناخات جديدة من الثقة. بالإمكان الحديث عن معالجة ملف الاعتقال السياسي، وعن إجراءات لتوسيع مجالات الحل السياسي، وإطلاق الحريات. وبالإمكان أيضا، الحديث عن وقف الحملات الإعلامية ووقف لغة التحريض والاتهامات، وعن إجراء الانتخابات للأطر الطلابية والنقابية، وعن تنسيق النشاطات في مواجهة استحقاقات محل اتفاق مثل موضوع الأسرى والقدس والاستيطان. وبالإمكان أيضا إطلاق برنامج المصالحة المجتمعية بكل مقتضياته ومتطلباته، الحوار إذاً مفيد، وضروري وثمة ما يستدعي مواصلة البحث لتحريك عجلة المصالحة، إلى أن يحين موعد تحقيقها إجرائياً.


